تشهد مدن الشمال العراقي وغربه، تصعيداً واضحاً في وتيرة الاعتداءات منذ مطلع شهر سبتمبر/أيلول الماضي، تنفّذها خلايا وجيوب مسلحة تتبع تنظيم "داعش". أدت هذه الهجمات حتى الآن، إلى مقتل نحو 50 شخصاً، وفقاً لمعطيات مسؤولين عراقيين في وزارة الدفاع، من مدنيين وعسكريين وعناصر من "الحشد الشعبي" و"الحشد العشائري"، فضلاً عن جرح عشرات آخرين. وتركزت الهجمات في محافظات كركوك ونينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى، غير أن اقتراب التنظيم في الأيام الأخيرة من بغداد، وتنفيذه عمليات مؤثرة، تحديداً في الرضوانية وأبو غريب، وقبلها الطارمية، في غرب العاصمة بغداد وشمالها، مثّلا تطوراً خطيراً على مستوى تلك الهجمات. كما سمحا في الوقت ذاته بالتشكيك بصحة الإعلانات المتتالية للقوات العراقية حول تفكيك خلايا التنظيم واعتقال أفرادها، خصوصاً بعد الإعلان عن اعتقال نحو 200 عراقي من "داعش" في أقلّ من شهرين.
تركزت هجمات داعش في محافظات كركوك ونينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى وصولاً إلى بغداد
وتزامن تصعيد العمليات مع عودة نشاط "مؤسسة الفرقان"، الذراع الإعلامية للتنظيم، التي غابت فعلياً بعد معركة تحرير الموصل في يوليو/تموز 2017، فضلاً عن تدشين حسابات في الوقت نفسه على منصتي "تويتر" و"تيليغرام"، لترويج مقاطع وصور عمليات وخطب التنظيم. واستهلت "مؤسسة الفرقان" في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عملها الترويجي لأنشطة التنظيم، بكلمة صوتية للمتحدث الجديد باسم التنظيم، أبو حمزة القريشي، استغرقت 32 دقيقة، ركز خلالها على العراق وسورية وأطلق حزمة من التهديدات الجديدة، حاثاً بقايا التنظيم على شن المزيد من الهجمات. اللافت في استخدام الحسابات التابعة للتنظيم في التعليق أو تبني الهجمات في العراق وسورية، بروز مصطلح "أصحاب الأقدام الثقيلة". وهو الاسم الذي أطلقه التنظيم على أول إصدار لجناحه الليبي في أواخر شهر أكتوبر 2014، مستنداً إلى تعليق المتحدث السابق باسم التنظيم، أبو محمد العدناني، الذي قتل بغارة أميركية شمالي حلب عام 2016، على تشكيل التحالف الدولي بقيادة واشنطن لطرده من المدن التي احتلها في العراق وسورية، ووصف فيها مقاتلي التنظيم بأنهم "أصحاب الأقدام الثقيلة"، في إشارة إلى صعوبة انتزاع التنظيم من هذه المناطق بشكل نهائي.
وبحسب بيانات رسمية للسلطات العراقية، فقد تركزت هجمات التنظيم خلال الأسبوعين الماضيين في الأنبار وكركوك وصلاح الدين وديالى وغرب نينوى وبغداد، كان أعنفها في كركوك والعاصمة، تحديداً بلدة الرضوانية غربي بغداد، التي راح ضحيتها 12 عنصراً من الأمن وقوات "الحشد العشائري".
في السياق، أكد مسؤول عسكري في بغداد أن اعتداءات التنظيم في الفترة الأخيرة كانت "منسقة وليست عشوائية"، كاشفاً في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "أفراد الحشد العشائري تصدروا قائمة المستهدفين بالهجمات التي نفذها داعش بالأسابيع الماضية. وهذا ما يجعل الكثير من الهجمات تتخذ طابعاً ثأرياً أو انتقامياً، خصوصاً أن التنظيم يعتبر مقاتلي العشائر مسؤولين عن خسارة نفوذه السابق بمناطقهم، ويهدد أي فرصة مستقبلية باستعادتها بالوقت ذاته".
وحول سبب تصاعد الهجمات، أقرّ المسؤول ذاته بأن أسباباً عدة تقف خلفها، من بينها عدم تعاون قوات النظام السوري بالمناطق التي تنتشر فيها على الحدود العراقية، وتسلل عناصر من "داعش" باستمرار للصحراء العراقية، فضلاً عن وجود الفصائل المسلحة القريبة من إيران. وهو ما أثّر سلباً على مسألة تعاون المواطنين مع قوات الأمن، بفعل الانتهاكات والمخالفات التي يرتكبها أفراد تلك الفصائل في المناطق الشمالية والغربية. كما أن اعتماد قيادات أمنية وعسكرية ميدانية على المخبر السري أثبت فشله، مع اعتقال ثلاثة مخبرين بتهمة "البلاغ الكاذب"، ما أدى إلى إطلاق سراح معتقلين ظهرت براءتهم.
وأضاف أنه مع مرور الوقت عاود التنظيم تأمين تواصله مع عناصره وخلاياه الذين تفرقوا منذ نهاية عام 2017، حتى أن "تعدد القوات والفصائل المسلحة والجهات الأمنية، التي تصل في بعض المدن لأكثر من 5 تشكيلات ولكل تشكيل قيادة وآمر، أمر صبّ في صالح التنظيم لا العكس". واعتبر أن "لجوء التنظيم إلى عمليات القنص والكمائن السريعة، يعتبر أخطر تهديد بالوقت الحالي على الملف الأمني، الذي يدخل بما يمكن وصفه عملية استنزاف ومحاولة إبقاء الأوضاع في بعض المدن بحالة اللا استقرار والاستنفار الدائم، تحسباً لمثل هذه الهجمات".
وسبق لرئيس جهاز مكافحة الإرهاب، عبد الوهاب الساعدي، أن كشف يوم الاثنين الماضي، عن معلومات متوفرة لديهم، تؤكد تحرك زعيم "داعش" أبو إبراهيم القرشي بين العراق وسورية، خصوصاً في المناطق الحدودية، متخفياً ومنفرداً.
في المقابل، تحدث عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان، بدر الزيادي عن "عودة النشاط بصورة واضحة لجيوب إرهابية"، مطالباً بتكثيف الجهد الاستخباراتي للسيطرة على تلك الجماعات. وحمّل في إيجاز صحافي قدمه يوم الثلاثاء الماضي، "الجهات الاستخباراتية" المسؤولية عن تصاعد تلك الهجمات.
من جهته، اعتبر المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة في بغداد اللواء تحسين الخفاجي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الوضع الأمني والعسكري تحت سيطرة القطعات الأمنية العراقية، وما يحصل من هجمات هنا وهناك الهدف منها عرقلة العمليات العسكرية والأمنية، لملاحقة عناصر داعش والخلايا النائمة لهذا التنظيم".
وعلى الرغم من عدد الضحايا المتصاعد للاعتداءات، إلا أن الخفاجي اعتبر الهجمات صغيرة وغير مؤثرة على الوضع الأمني بصورة كبيرة، مشيراً إلى أن "التنظيم يريد القول من خلال تلك الهجمات أنه ما زال موجوداً". وشدّد على أن "العمليات العسكرية مستمرة وتحقق أهدافاً على الأرض، وعناصر داعش محاصرون، ولا يمكنهم التحرك. لهذا السبب يحرّكون بعض الخلايا من أجل إحداث خروقات أمنية، تؤدي إلى فتح بعض الثغرات لهم، لكنهم لم ينجحوا في ذلك".
اعتداءات التنظيم في الفترة الأخيرة كانت "منسقة وليست عشوائية"
في المقابل، اعتبر عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان علي الغانمي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن طرق محاربة تنظيم "داعش" يجب أن تتغير، من خلال الاعتماد على الجهد الاستخباراتي، بدلاً من العمليات العسكرية الضخمة. ولفت إلى أن مسلحي التنظيم "دائماً ما يستخدمون بعض الثغرات، الممكن حصولها في بعض المناطق، لشنّ هجمات على قوات الأمن أو المواطنين. ولهذا يجب إجراء تغييرات شبه دورية للقيادات الأمنية والعسكرية، فتغيير الدماء أمر مهم في منع أي ثغرات أمنية وعسكرية، خصوصاً أن كل قائد عسكري يختلف عن الآخر. بالتالي فإن تغيير الخطط أمر مهم جداً لإفشال أي مخطط".
لكن المحلل أحمد النعيمي لم يستبعد وجود من يفسح المجال لمثل هذه العمليات أو يغض الطرف عن تحركات عناصر "داعش" لغايات سياسية معروفة. وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "كلما تصاعدت المطالبة بإخراج المليشيات من المدن الشمالية والغربية وتسليم الأمن للجيش والشرطة، عادت العمليات على نحوٍ أشد. ومن خلال غطاء العمليات تنفذ المليشيات عمليات توسع ومد نفوذ، تحت حجج محاربة الإرهاب، وفيها تتم عمليات قمع وانتهاكات، لذا يجب عدم إغفال أن عودة مثل هذه العمليات يصب في صالح المليشيات، التي من دونها ستنتفي أصلاً حجة وجودها بالمدن المحررة وكل العراق". ونوّه إلى أن من الملاحظ أنه "بعد كل عملية باتت الأحزاب والقوى السياسية والفصائل المسلحة بدلاً من أن تندد بها كما جرت العادة، تذهب إلى التشهير بحكومة (مصطفى) الكاظمي واتهامها بالفشل في إدارة الملف الأمني وسوء المعالجات الميدانية. وهذا ما يجعل ورقة داعش لبعض الجهات قابلة للتوظيف ولو على حساب أرواح العراقيين".