يشهد الشارع التونسي حراكاً متصاعداً ضد سياسات الرئيس قيس سعيّد، في ظل الأزمة الخانقة التي تشهدها تونس والتوقيفات والمحاكمات المتواترة لسياسيين ومحامين ونشطاء وحتى نقابيين.
وتقود هذا الحراك منظمات عريقة، كالاتحاد العام التونسي للشغل الذي خاض عدة تحركات في الأسبوعين الأخيرين في محافظات مختلفة، وسيقود اليوم السبت حراكاً في منطقة بطحاء محمد علي وسط العاصمة تونس. وإضافة إلى ذلك تستعد جبهة الخلاص الوطني لتظاهرة غداً الأحد.
تحركات ومخاوف السلطة
غير أن هذه التحركات تصطدم بمخاوف السلطة الواضحة، التي تسعى للتضييق عليها وإفشالها بأي طريقة. وقررت السلطات أمس الأول الخميس، منع تظاهرة "جبهة الخلاص الوطني" بحجة أن بعض قيادييها ملاحقون بتهم التآمر على أمن الدولة، على الرغم من أن القضاء لم يحسم في ذلك إلى حد الآن وتظل قانونياً مجرد شكوك.
لكن "جبهة الخلاص" ردت في بيان مساء الخميس، معتبرة أن "الاجتماعات العامة والتظاهرات حرّة ويمكن أن تنعقد من دون سابق ترخيص، حسب الفصل الأول من القانون عدد 4 لسنة 1969 المتعلق بالاجتماعات العامة والتظاهرات".
واعتبرت أن "السلطات المسؤولة لا يمكنها اتخاذ قرار منع الاجتماع إلا إذا كان يتوقع منه إخلال بالأمن أو بالنظام العام، ولذلك فإن قرار المنع صادر عن سلطة غير مختصة ومستند إلى أسباب لا تمت للقانون بصلة". وأعلنت الجبهة رفضها "لهذا الإجراء الباطل"، متمسكة بحقها في التظاهر غداً الأحد من ساحة الجمهورية الى شارع الحبيب بورقيبة، في العاصمة التونسية.
منعت السلطات دخول نقابي إسباني للتضامن مع اتحاد الشغل
من جهة أخرى، منعت السلطات دخول نقابي إسباني متضامن مع اتحاد الشغل إلى تونس، وأشعرت المنظمة النقابية بأنه غير مرحب ببقية المتضامنين كذلك. واعتبر اتحاد الشغل في بيان إثر ذلك أن إقدام السلطة الحاكمة على منع الأمين العام المسؤول عن أفريقيا وآسيا في النقابة الإسبانية، ماركو بيريز مولينا، من الدخول إلى التراب التونسي وترحيله، هي "خطوة أخرى تصعيدية عدائية".
وأضاف الاتحاد أن "السلطات أعلمت المكتب التنفيذي الوطني بقرارها منع قدوم وفد من الاتحاد الدولي للنقابات يتقدّمهم الأمين العام، لمساندة الاتحاد العام التونسي للشغل والمشاركة في المسيرة الوطنية المقررة اليوم السبت".
وإثر اجتماع طارئ للمكتب التنفيذي برئاسة الأمين العام نورالدين الطبوبي، دان الاتحاد "بشدّة هذا القرار غير المبرر"، واعتبره "استهدافاً للاتحاد العام التونسي للشغل وللعمل النقابي المستقل".
واستنكر "إصرار السلطة الحاكمة على الإساءة إلى سمعة تونس الثورة، ثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، عبر إجراءاتها التي تخرق الأعراف والتقاليد العريقة لبلادنا، وتعمّق من عزلة تونس وتجعلها أمام المساءلة القانونية في المحافل الدولية وخاصة منها منظمة العمل الدولية". وأعلنت أحزاب العمال والتكتل والتيار الديمقراطي والقطب، أنها ستشارك في تظاهرة اليوم السبت مع الاتحاد، كذلك أعلنت منظمات وطنية وطالبية مشاركتها في هذه المسيرة.
وقال الأمين العام المساعد في اتحاد الشغل، سامي الطاهري، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن تحرك اليوم السبت ليس أول تحرك للاتحاد، فقد سبقته عدة تحركات في صفاقس وسوسة وسيدي بوزيد وتطاوين وزغوان وباجة وقفصة وغيرها: "وهي للتأكيد على التفاف العمال حول الاتحاد خصوصاً في ظل الهجمة على العمل النقابي والنقابيين وحتى على الحق في الإضراب"، مؤكداً أن "في ذلك أيضاً تحذيراً للسلطة في ظل الاعتقالات والقضايا الملفقة".
وبيّن الطاهري أن "في التحركات أيضاً رسالة للحكومة للالتفات للوضع الاجتماعي، فهناك اتفاقات عدة لم يتم تطبيقها"، مشيراً إلى أن "قطاعات عديدة ستتحرك، وستكون هناك إضرابات".
وأوضح أن "المسيرات الجارية لا تهم النقابيين فقط بل عموم الناس، ممن يرفضون ارتفاع الأسعار ورفع الدعم وغياب مواد أساسية في الأسواق، ورفضاً للضرائب التي وضعت في موازنة 2023"، لافتاً إلى أن "الرسالة واضحة للسلطة كي تراجع سياساتها، سواء تجاه الاتحاد أو تجاه الملفات الاجتماعية والاقتصادية العالقة".
الرهان على الشارع
وتابع الطاهري أن "الرهان على الشارع سيشكل ضغطاً بلا شك، وكل ضغط لا بد أن يأتي بنتيجة، إما فورية أو على المدى القريب"، مبيناً أن "العاقل يتلقى الرسالة ويفهمها، ويخفف من التوتر الاجتماعي".
واعتبر أنه "في حال عدم التفاعل مع الرسائل، ستكون هناك خطوات لاحقة تنظر فيها الهيئة الإدارية للاتحاد، وإن حصل تجاوب يتم تجاوز الوضع المحتقن، وإن لم يحصل ذلك فسيتم الاضطرار إلى اتخاذ خطوات أخرى تصعيدية".
سامي الطاهري: في حال عدم التفاعل مع الرسائل، ستكون هناك خطوات لاحقة
من جهته، أكد عضو جبهة الخلاص، القيادي في حركة النهضة، محمد القوماني، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "التحركات والمسيرات التي تنظمها جبهة الخلاص منذ فترة طويلة والتي تجاوزت العشرين مسيرة هي أداة للاحتجاج السياسي، وتكريس لحق التعبير والتظاهر، والدفاع على هذا الحق الذي حاولت السلطة إلغاءه في 14 يناير/كانون الثاني 2022 والذي ارتقى فيه الشهيد رضا بوزيان، وحاولت في عدة مناسبات ترويع المحتجين القادمين من عدة محافظات بمنعهم من العبور". وأشار إلى أن "التشبث والإصرار على النزول إلى الشارع يعد مكسباً في حد ذاته".
وقال القوماني إن "الحراك إذا اقتصر على الشارع الديمقراطي والمنظمات والمجتمع المدني فإنه غير قادر على تغيير موازين القوى، بمعنى أن التظاهر السياسي مهم ويجب ألا يتوقف، ولكنّ هناك جهوداً يجب أن تبذلها المعارضة في اتجاه استعادة ثقة الشارع الشعبي مجدداً".
وأضاف أن "هناك هوة حقيقية بين المجتمع السياسي المنظم والمجتمع الشعبي المهمش. وهذه الهوة اتسعت بسبب الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي بعد الثورة، وخلقت نوعاً من العزوف السياسي الذي ظهر من خلال عدم الحماس للانخراط في الأحزاب السياسية خلافاً لمطلع الثورة، ثم تجسد في نسب المشاركة في الانتخابات والتظاهرات".
ولفت القوماني إلى أن "الشارع السياسي المقتصر على الناشطين والسياسيين لن يغيّر بمفرده التوازنات، أما الشارع الشعبي فهو قوة هامة وهو ما حصل بين 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 و14 يناير 2011، وفي بلدان عديدة عرفت ثورات عربية".
ورأى أن "الشارع حالياً في وضع لا مبالاة ووضع المتفرج ولم يعد متحمساً للوقوف في هذا الجانب أو ذاك من الصراع السياسي، ولوحظ ذلك حتى في مسيرات دعت إليها أطراف موالية لقيس سعيّد لم تتم الاستجابة لها. أما الشارع المعارض فيحشد بالآلاف ولكن هذا الأمر لن يغيّر شيئاً".
وأضاف: "نعم هناك غضب شعبي تجاه الطبقة السياسية، والمعارضة للأسف لم تبذل الجهد المطلوب بعد انقلاب 25 يوليو/تموز 2021 في تجديد عرضها السياسي وقياداتها وخطابها وهي تدفع ثمن هذا التأخر".
القوماني: الشارع في وضع لا مبالاة ووضع المتفرج ولم يعد متحمساً للوقوف في هذا الجانب أو ذاك من الصراع السياسي
وتعليقاً على الوضع القائم، رأى المحلل السياسي قاسم الغربي، أن "أفق العمل السياسي وكذلك العمل النقابي أصبح منحصراً في الشارع الذي يشكل أداة للضغط السياسي". ولفت في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "الأطر الأخرى مغلقة بمعنى إمكانية وجود حوار وطني، أو إطار يجمع مختلف الفرقاء السياسيين، أو مكونات ومنظمات المجتمع المدني كاتحاد الشغل أو حتى غيره".
القدرة على التعبئة
وحول ما إذا كان الشارع السياسي والنقابي قادراً على التعبئة وتجميع الناس، قال الغربي إنه "حسب التحركات الأخيرة فقد بدأت تعود للشارع الحيوية، أي أن هذا الشارع يتجه على ما يبدو نحو التوحد لأن مختلف المعارضات تجد اليوم في الشارع أرضية للتقارب بينها".
وأضاف أن "الشارع السياسي قادر على الحشد والتجميع وبأعداد أكثر من السابق"، مبيناً أن "السؤال سيطرح حول هذه الأعداد، وهل هي من خارج الأطر المسيّسة أم لا؟". ورأى أن "الإجابة الأقرب لا، لأن المعارضة قادرة على التجميع ولكن المواطن العادي غير موجود ضمن هذه التحركات السياسية".
وأوضح الغربي: "بالعودة إلى تحركات الاتحاد مثلاً، فإنه حتى داخل المنظمة العمالية هناك بعض الاختلافات تجعل الشارع النقابي غير قادر على التعبئة وتجميع عدد كبير من الناس، ما عدا المنخرطين والمؤمنين بالعمل النقابي".
أما النائب السابق عضو حزب قلب تونس، رفيق عمارة، فأكد لـ"العربي الجديد" أن "الشارع انتهى، ولم يعد قادراً على إسقاط حكومات أو الضغط عليها"، موضحاً أن "هناك تحركات عدة ومسيرات لجبهة الخلاص ولمنظمات عادة ما يتم الحشد لها ويأتي الناس من عدة محافظات للمشاركة، وبعضهم يتكبّد عناء السفر ويدفعون مصاريف النقل ثم يرفعون الشعارات ويعودون إلى بيوتهم، وبالتالي عن أي شارع نتحدث؟".
وبيّن عمارة أن "إسقاط قيس سعيّد لن يكون إلا بالصندوق وبانتخابات رئاسية في 2024، هذا إن حصلت أساساً، وما عدا ذلك فإن الشارع انتهى". ولفت إلى أن "أغلب السياسيين والنشطاء في السجن، وحتى لو كانت الأزمة الاجتماعية خانقة فإن المواطن حتى لو جاع لن يخرج إلى الشارع، لأنه يريد التشفي والانتقام من الطبقة السياسية".