تحمل إقالة رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي، لوزير الداخلية توفيق شرف الدين من منصبه، أمس الأول الثلاثاء، رسالة سياسية مباشرة للرئيس التونسي قيس سعيّد، وخروجاً للصراع بين الرئاستين إلى العلن، بعد أشهر من الحرب الباردة، نتيجة علاقة شرف الدين بقصر قرطاج، بعدما اقتُرح للحقيبة بإيعاز ودفع من سعيّد.
ويبدو أن إبعاد شرف الدين سيكون له وقع كبير في علاقة المشيشي برئيس الدولة، إذ يعده خصوم سعيّد رجل القصر في حكومة المشيشي، باعتباره حاملاً لمشروعه وأكثرهم ولاءً له، إذ قاد الرجل وأدار الحملة التفسيرية لسعيّد خلال الانتخابات الرئاسية في محافظة سوسة، وكان من أشد المدافعين عنه في جهة الساحل التونسي.
رضخ المشيشي لإهانة سعيّد العلنية على مضض وأبقى الزيدي في التشكيل لغاية إقالته بعد أشهر
ولكن تفاصيل الصراع بين الرئيسين تعود إلى أشهر مضت، أي مرحلة تشكيل الحكومة نفسها، عندما كانت العلاقة على أحسن ما يرام بين المشيشي وسعيّد، الذي اقترحه لرئاسة الحكومة وفق ما يتيحه له الدستور بعد استقالة إلياس الفخفاخ. ولكن هذه العلاقة سرعان ما تدهورت، عندما بدأ المشيشي يكتشف أن البعض يريده وزيراً أول (رئيس حكومة) يأتمر بأمر الرئيس كما في الأنظمة الرئاسية، وليس رئيس حكومة بصلاحيات واسعة.
وأكدت أحداث يوم الخميس 27 أغسطس/آب الماضي هذه النوايا، عندما أعلن المكلف بتشكيل الحكومة حينها، هشام المشيشي، صباحاً، التخلي عن وليد الزيدي في تشكيلة الحكومة المقترحة بوزارة الثقافة وتعويضه بشخصية أخرى. واتخذ المشيشي هذا القرار "إثر التصريحات الصادرة عن وليد الزيدي، المقترح لتولي هذه الحقيبة، والتي عبر فيها عن تعففه عن تحمّل هذه المسؤولية"، وفق ما جاء في بيان للمكلف بالإعلام لدى المشيشي. وأضاف البيان أن المشيشي أكد أنه لا مجال للتردد في خدمة تونس والتعفف عن تلبية نداء الواجب الوطني. ولكن مساء اليوم نفسه، أعلن سعيّد "تثمينه ودعمه ترشيح وليد الزيدي لمنصب وزير الشؤون الثقافية"، مؤكداً ثقته بأنه جدير بتولي هذه المسؤولية. وأشار إلى أنها "تجربة أولى في تونس سيؤكد من خلالها الزيدي أنه عنوان المثابرة والتحدي والجدارة بتولي هذا المنصب"، متجاوزاً قرار المشيشي وكأنه لم يكن أصلاً. ورضخ الأخير لهذه الإهانة العلنية على مضض، وأبقى الزيدي في التشكيل لغاية إقالته بعد أشهر، بعدما أصبح القرار الدستوري بالتعيين والإقالة في يد المشيشي بشكل كامل، وأصبح في حل من تدخل الرئيس.
وينص الفصل 92 من الدستور على أن رئيس الحكومة يختص بإحداث وتعديل وحذف الوزارات، وكتابات الدولة وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها، بعد مداولة مجلس الوزراء، وإقالة عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، أو البت في استقالته، والتشاور مع رئيس الجمهورية إذا تعلق الأمر بوزير الخارجية أو وزير الدفاع. لكن إقالة وزير الداخلية قرار أكبر بكثير من وزارة الثقافة، أو أي وزارة تقنية وخدماتية أخرى، لأهميتها الاستراتيجية في التوازنات السياسية في البلاد من جهة، ودورها المحوري في أمن البلاد وثقلها الاستخباراتي والإجرائي، من جهة أخرى. ولذلك شكلت الإقالة حدثاً بارزاً في علاقة الرئاستين والرجلين في الوقت نفسه، لأنها إعلان عن فك الارتباط نهائياً بينهما، وميله إو انضمامه إلى الأغلبية البرلمانية (حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس) التي لا تخفي بدورها صراعها مع سعيّد.
تأكيد سعيّد أن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية حمل تحذيرات لبقية الفرقاء
ويمكن تفسير هذه الإقالة بجملة من الأحداث المتسلسلة، أولها العلاقة الوطيدة القديمة بين سعيّد وشرف الدين منذ الانتخابات الماضية، وما تلاها من لقاءات متكررة بين الرجلين، ما اعتُبر قفزاً فوق صلاحيات رئيس الحكومة من ناحية، وتوسيعاً لصلاحيات سعيّد من ناحية أخرى. وفي ظرف أسبوع واحد، استقبل سعيّد الوزير شرف الدين، الأربعاء 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بقصر قرطاج. وتناول اللقاء الأحداث الأخيرة التي شهدتها تونس وضرورة الوقاية من كل من يحاول الاعتداء على أمن البلاد وأمن المواطنين. وحمّل الرئيس وزير الداخلية تقديره للجهود التي تبذلها القوات المسلحة الأمنية إلى جانب القوات المسلحة العسكرية.
وتوجّه سعيّد شخصياً ليلة رأس السنة إلى وزارة الداخلية واجتمع بالوزير وقيادات أمنية عليا، مؤكداً أنّ هناك من يتربّص بأمن تونس واستقرارها، معتبراً أنّ البلاد تعيش مرحلة خطيرة. وتوجّه بعبارات الشكر للقيادات الأمنية المسلّحة، مؤكداً أنّ ''رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة العسكرية والأمنية''. وأضاف أنّ المؤسسة الأمنية يجب أن تستمرّ بقطع النظر عن الأشخاص، معتبراً أن ''الأشخاص يمرّون، ولكن الدولة يجب أن تبقى. والمؤسسة الأمنية يجب أن تبقى كالمؤسسة العسكرية، وكسائر المرافق العمومية الأخرى، بمنأى عن كل الاعتبارات السياسية". وأشار سعيّد إلى أنّ هناك "من يتربّص بالدولة شراً"، داعياً القوات الأمنية إلى ردع أي تعد على الدولة ومؤسساتها و"أن يُطبق القانون على قدم المساواة". وأضاف أنّ تونس تعيش مرحلة من أدقّ المراحل ومن أخطرها، مشيراً للقوات الأمنية بأنّهم واعون بكلّ المخاطر، ويمكنهم بثباتهم وصدقهم التصدي لكلّ المتربّصين بأمن تونس واستقرارها.
ويبدو أن تأكيد سعيّد أن ''رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة العسكرية والأمنية''، حمل تحذيرات لبقية الفرقاء، خصوصاً أن وزير الداخلية شرف الدين أقدم، في الفترة الأخيرة، على تغييرات مهمة في الوزارة، ما شكّل رغبة في السيطرة على كل القوى الحاملة للسلاح. وينص الدستور على أن رئيس الدولة يتولى تمثيل الدولة، وضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي، المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة. ويترأس مجلس الأمن القومي، ويدعى إليه رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، ويترأس القيادة العليا للقوات المسلحة. كما يتولى إعلان الحرب، وإبرام السلم، بعد موافقة مجلس نواب الشعب بأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه، وإرسال قوات إلى الخارج بموافقة رئيسي مجلس النواب والحكومة، واتخاذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية. وجرت العادة أن يكون الرئيس قائداً للقوات المسلحة العسكرية في حين تتبع وزارة الداخلية الحكومة. ولكن تكرار سعيّد بأنه القائد للقوتين معاً يحمل فهماً جديداً لتوزيع السلطات الأمنية بين الرئاسات، خصوصاً أنه يكرر منذ مدة أن هناك خطراً داهماً يتربص بالبلاد ينبغي الاستعداد له، وهو ما أثار بالتأكيد حفيظة البقية: رئيس الحكومة ورئيس البرلمان والأحزاب المتحالفة. وستشكل الإقالة بالتأكيد فصلاً جديداً من الصراع الكبير في تونس، بين الرئاسات الثلاث من جهة، وبين الأحزاب من جهة أخرى، وستزيد من تعميق الأزمة عشية النقاش حول حوار وطني ممكن، يحد من الخلافات ويقلص من الأزمة السياسية والاجتماعية الحادة التي تمر بها البلاد. ولكن يبدو أن هذا الأمر سيزداد صعوبة.