تونس: شباب متمردون على البوليس

14 أكتوبر 2020
خلال احتجاج ضد قانون "زجر الاعتداء على الأمنيين" (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -

يعود الصراع من جديد في تونس بين الأجهزة الأمنية من جهة، وبين المحامين وحقوقيين وشباب غاضب ومسيس. ويتوقع أن تطول المواجهة بين الطرفين وأن تتعقّد إذا لم تتدخل أطراف عديدة من أجل تهدئة الخواطر والدفع نحو البحث عن معالجة حكيمة لهذا الملف الخطير والمتشعب. فتصريحات عميد المحامين، إبراهيم بودربالة، الأخيرة، غير مطمئنة، إذ قال، في تصريح إذاعي أول من أمس الإثنين، إنّ قوات أمنية حاملة للسلاح حاصرت المحكمة الابتدائية في مدينة بن عروس للضغط على قاضي التحقيق خلال استنطاقه رئيس مركز أمن متهماً في قضية "اعتداء على محامية". وأضاف بودربالة أنّ "حاكم التحقيق ترك وحيداً في المحكمة إلى منتصف الليل، ومن الطبيعي أن يخاف". هذه صورة كافية تبرز خطورة المشهد في بلد لا يزال يمرّ بانتقال ديمقراطي صعب بعد أن خضع لسنوات طويلة لنظام أمني مخيف.

بعد أيام قليلة من مغادرة الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، السلطة والبلاد، بدأت المطالبة بإصلاح المؤسسة الأمنية ومحاسبة الأمنيين الذين تورطوا في ارتكاب جرائم. أدرك الأمنيون أنّ ظهورهم أصبحت مكشوفة، وقد يتم تحميلهم مسؤولية ما شهده العهد السابق من تجاوزات خطيرة بلغت حدّ الاغتيال والتعذيب حتى الموت. ماذا فعل الأمنيون يومها؟ من جهة، اعتذروا وتبرأوا من النظام السابق وطالبوا بفتح صفحة جديدة بينهم وبين المواطنين، كما طالبوا بإرساء أمن جمهوري، ومن جهة أخرى، أسسوا نقابات أمنية. هذه النقابات تعتبر الأولى من نوعها في العالم العربي، لتصبح منذ ذلك التاريخ في حالة اشتباك متجدّد؛ إما مع الحكومة أو مع المجتمع المدني خصوصاً، ويطالب المحامون حالياً بحلها.


الثقة بين رجل الأمن والمواطن لم تترسخ حتى الآن

لم يأخذ المجتمع المدني المتمرد وعود الأمنيين بجدية، وذلك في ظلّ غياب مراجعة الهياكل الإدارية ومناهج تكوين الشرطة وتحقيق إصلاحات عميقة. اليوم، وبعد عشر سنوات من المخاض المتواصل، بقيت مطالب كثير من فعاليات المجتمع المدني متمسّكة بتغييرات هيكلية جدية وملموسة. لا يزال هذا الانتظار قائماً والثقة بين رجل الأمن والمواطن لم تترسخ حتى الآن.

ما أعاد الجدل حول هذه المسألة هو مشروع قانون "زجر الاعتداء على الأمنيين"، وبالأخص الفصل السابع منه الذي ينصّ على أنه "لا يكون العون (رجل الأمن) مسؤولاً جزائياً عند قيامه بمهمات أو تدخلات أثناء أدائه لوظائفه أو في علاقة بصفته... بسبب مواجهته خطراً محدقاً وجسيماً ناتجاً عن اعتداء حصل أمامه أو على وشك الحصول على الأشخاص أو المنشآت الأمنية، حتمت عليه استعمال القوة المناسبة بواسطة السلاح أو بغيره من الوسائل.. ونتج عن ذلك أضرار مادية أو بدنية أو وفاة". هذا الفصل بالذات أثار حركة احتجاج واسعة، واعتبره الرافضون لمشروع القانون مؤشراً خطيراً على عودة دولة البوليس، ومقدمة خطيرة للتراجع عن مجمل المكاسب التي تحققت بعد الثورة في مجال الحريات وحقوق الإنسان.

محاولة تمرير هذا المشروع في هذا الظرف بالذات أدّت إلى تغيير المزاج العام، وخلقت وضعاً مضطرباً ليس في صالح الأمنيين. ونظراً لتوسّع الحركة الرافضة لهذا التعديل، بما في ذلك المسيرة الضخمة التي نظّمت من قبل الشباب أخيراً، تخوّف مكتب البرلمان من الردود التي يمكن أن تحصل في حال عرض المشروع على النقاش العام، خصوصاً بعد التهديد بإمكانية اقتحام المحتجين الذين كانوا يقفون أمام مبنى مجلس النواب قاعة البرلمان من أجل تعطيل أشغاله. بناءً عليه، تمّ تأخير النظر فيه إلى وقت لاحق. وتعتبر هذه المرة الثانية التي يتم فيها إرجاء البت في المشروع منذ تقديمه في سنة 2015، على الرغم من مراجعته من قبل الحكومة والبرلمان وجزء من منظمات المجتمع المدني.


الحكومة حالياً لا يمكنها أن تتدخّل لفك هذا الاشتباك بشكل جذري

إرساء نظام ديمقراطي نزيه يحترم الحقوق الأساسية للمواطنين عملية صعبة وشاقة. ولا يمكن لهذا النظام أن يستقر ويصمد إذا لم تكن الأجهزة الأمنية منضبطة ومنسجمة مع القيادة السياسية المنتخبة. فالأمنيون وكل الحاملين للسلاح مطالبون بالانضباط، وباحترام المؤسسات وأيضاً المواطنين. فهم الساهرون على تطبيق القانون، وضمان السلم الأهلي وحماية الدولة، إذ بدون ذلك، يصبح الاستقرار مهدداً، وتصبح الدولة معرّضة للتفكك والتحلل.

المشكلة أنّ الحكومة حالياً لا يمكنها أن تتدخّل لفك هذا الاشتباك بشكل جذري. وما يمكنها القيام به هو تهدئة الأجواء، والعمل على ضبط رجال الشرطة، وخصوصاً إقناع بعض النقابات الأمنية، والتي تتمتع بنوع من الاستقلالية، بضبط النفس، واحترام قواعد اللعبة، في انتظار حسم المعركة ضد وباء كورونا، الذي ينتشر بسرعة كبيرة، وأصبح ينذر بكارثة وطنية غير مسبوقة. بعد ذلك، قد تتحسّن الظروف، ويصبح بالإمكان مناقشة هذا الموضوع الساخن والصعب في جو لا يسيطر عليه الاحتقان والرغبة في الثأر. هناك أمنيون كثر ليسوا راضين عن التصعيد الذي يمارسه بعض زملائهم المنخرطين في بعض النقابات، وهم يبحثون عن حلول وسطى من شأنها أن تمكنهم من القيام بأعمالهم بأقل ما يمكن من التهديدات والمخاطر.

المساهمون