عندما تمطر في باريس يُخرج التونسيون مظلاتهم. هذا ما أثبته التاريخ المعاصر، منذ الاحتلال الفرنسي لتونس في 1881. لهذا ما إن اندلعت مشكلة الرسوم المسيئة للرسول، وأدت مرة أخرى إلى استعمال العنف الشديد، بعد قطع رأس المعلم الفرنسي على يد شاب من أصل شيشاني، حتى بدأ الرأي العام التونسي يتفاعل في اتجاهات مختلفة مع التطورات المتلاحقة هناك.
شق من النخبة انتصر لحرية الرأي والتفكير، مركزاً هجومه على حركات التطرف الديني، وعلى الإسلام السياسي عموماً، في حين انطلق تيار واسع من الرأي العام نحو الانخراط في حملة انطلقت من خارج تونس للدفاع عن النبي. في غمرة هذه الحماسة دعا النائب ياسين العياري الرئيس قيس سعيّد إلى التحرك، والإعلان عن امتناع تونس عن احتضان القمة الفرنكوفونية التي ستعقد في جزيرة جربة العام المقبل، تعبيراً عن رفض سياسة باريس الحالية.
هناك تحول عميق حصل في مزاج الكثير من التونسيين تجاه السياسة الفرنسية
لم تكن الطبقة السياسية الفرنسية تتوقع حصول تغيير عميق وفجائي في موازين القوى بتونس. هذا البلد الذي تعتبره صديقاً لها، على الرغم من مرحلة الاستعمار التي امتدت 70 عاماً. هناك تحول عميق حصل في مزاج الكثير من التونسيين تجاه السياسة الفرنسية، على الرغم من حجم ووزن النخبة المحلية التي تلقت تعليمها بالجامعات الفرنسية، والتي تتقن اللغة وهي مشبعة بثقافة فولتير وروسو.
وإذا كان الإيطاليون مصدومين بالنسبة العالية من الشباب التونسي الهارب من بلده، والمغامر بحياته من أجل الوصول إلى أوروبا، فإن الفرنسيين مذهولون من نسق العداء الذي يزداد بسرعة ضد باريس بعد رحيل الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. هذا الموقف المناهض لباريس بلغ حد صياغة عريضة في البرلمان كادت أن تمر، طالب الموقعون عليها الدولة الفرنسية بالاعتذار عن مرحلة الاستعمار، وتقديم تعويضات للشعب التونسي بسبب الانتهاكات التي ارتكبتها في تلك المرحلة.
عندما كتب النائب فتحي الخياري تدوينة اعتبر فيها أن "الإساءة لرسول الله أعظم الجرائم، وعلى من يُقدم عليها تحمل تبعاتها ونتائجها، دولة كانت أو جماعة أو فرداً"، عبرت السكرتيرة الأولى بالسفارة الفرنسية عن صدمتها. وقالت "تونس التي أعتبرها جزءا مني لم أعد أعرفها. لقد تغيرت كثيراً".
لم يعد الحديث اليوم عن الجريمة البشعة التي ارتكبها الشاب ذو الأصول الشيشانية، وإنما تحول السياق كلياً نحو إدانة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قلب المعادلة لصالح الجماعات الراديكالية الداعية إلى العنف باسم الإسلام من دون أن يشعر. فبدل أن يحافظ على قيم الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان، بما فيها حقوق الجالية الإسلامية العريضة، تحدث عن أزمة الإسلام، وفتح المجال أمام إعادة نشر الصور المسيئة للرسول محمد. كان ذلك كافياً لقلب المعادلة، ووضع فرنسا في موقع العزلة ورد الفعل، وهو ما جعل ماكرون يتوجه إلى الدول الإسلامية بخطاب معتدل نسبياً. كما طالبت وزارة خارجيته الحكومات الإسلامية بعدم مقاطعة السلع الفرنسية. حدث ذلك في أعقاب إطلاق حملة شنتها أطراف متعددة ضد المنتجات الفرنسية، والتي بدأت تحقق انتشاراً واسع النطاق، وهو ما أثار قلق أصحاب المؤسسات الاقتصادية في فرنسا، الذين تخوفوا من النتائج الوخيمة التي يمكن أن تترتب عن سوء إدارة الأزمة من قبل رئيس بلادهم.
تنظيم القمة الفرنكفونية سيكون مناسبة هامة للدبلوماسية التونسية حتى تعيد ربط البلاد بدائرتها الأفريقية والدولية
التونسيون جزء من الأمة الإسلامية، هذا ما يشعر به عدد واسع منهم، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يُقلل من تعاطفهم مع رسولهم. لكن التونسيين من جهة أخرى تربطهم علاقات قوية بفرنسا، حيث تعمل في تونس ما لا يقل عن 1400 شركة فرنسية، تشغل قرابة 140 ألف عامل. كما أن تنظيم القمة الفرنكفونية السنة المقبلة سيكون مناسبة هامة للدبلوماسية التونسية، حتى تعيد ربط البلاد بدائرتها الأفريقية والدولية. لهذا ربما تعتبر الدعوة إلى مقاطعة هذا الحدث الدولي، ورفض تنظيمه في تونس، خطأ سياسياً، من المستبعد جداً أن ينخرط فيه سعيّد. كما أن الأحزاب الرئيسية، وفي طليعتها حركة "النهضة"، لن تنساق وراء هذا السيناريو الذي ترى فيه إضراراً بمصلحة البلاد العليا.
وعلى الرغم من العلاقات القوية التي تربطها بأنقرة، إلا أن "النهضة" حريصة على أن تكون علاقتها متينة بباريس، رغم خلافها الأيديولوجي مع ماكرون. وقد حاولت منذ انخراطها في المسار الانتقالي أن تطمئن الدول الغربية، وتتجنب أن تستعديهم أو تثير شكوكهم حول نواياها بحكم موقعها الحساس في المشهد التونسي، وإن كانت منزعجة من تدهور العلاقات بين ماكرون والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وبالنسبة إلى "ائتلاف الكرامة" فإن موقفه المناهض بشدة للسياسات الفرنسية مُرشح لأن يتواصل ويحتد، خصوصاً وقد أعلن مساندته لحملة مقاطعة البضائع الفرنسية. وقد أصبح من أشد المعادين لباريس، ولا تنظر إليه السفارة الفرنسية بتونس بارتياح. لكن دعوة التونسيين إلى عدم الإقبال على السلع الفرنسية قد لا تجد عملياً نفس الحماس الذي تلقاه في بعض الدول، نتيجة عوامل يطول شرحها.
المؤكد أن الخطوة التي أقدم عليها ماكرون كانت غير صائبة، وخلقت مزيداً من المتاعب له ولبلده. كان هدفه جذب قوى اليمين لصالحه خلال معركته الانتخابية المقبلة، إلا أنه أوقع نفسه في استراتيجية أقصى اليمين. كما أنه أراد أن يوجه ضربة للتنظيمات المتشددة مثل "داعش" و"القاعدة"، غير أن السحر انقلب على الساحر، إذ ارتكب خطأ جسيماً عندما دفع بعموم المسلمين وجعلهم خصوماً له ولبلاده. بذلك يكون الرئيس الفرنسي قدم خدمة كبرى للجماعات العنيفة دون أن يحسب ذلك، وهو ما جعله يشرع في محاولة احتواء الأزمة قبل أن تتفاقم وتزداد تعقيداً وسوءاً.