جاسيندا أرديرن... شابة اخترقت "النظام الأبوي" وغيرت وجه نيوزيلندا

كوبنهاغن
5698EA23-7F4D-47FA-B256-09D7BCA82E5A
ناصر السهلي
صحافي فلسطيني، مراسل موقع وصحيفة "العربي الجديد" في أوروبا.
19 يناير 2023
رئيسة وزراء نيوزيلاندا
+ الخط -

أعلنت رئيسة الحكومة النيوزيلندية جاسيندا أرديرن، اليوم الخميس، أنها ستتخلى عن منصبها في 7 فبراير/ شباط، داعية في الوقت نفسه إلى انتخاب البرلمان النيوزيلندي في 14 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2023، في خطوة تبدو أنها الأخيرة لها في دعم المسار الديمقراطي في بلادها.

من أحياء فقيرة جاءت جاسيندا أرديرن، وفي ذاكرتها صور الفقر بين الأطفال، وتستعمل أحلامها اليسارية في العدالة الاجتماعية ومحاربة عدم تكافؤ الفرص، في سنّ مبكرة تنخرط في السياسة، فتصير اليسارية المراهقة تعرّف نفسها بأنها ديمقراطية اجتماعية تقدمية. بما لها وما عليها، تغادر بدموع مخنوقة منصبها، بعد أن بقيت تخدم شعبها كرئيسة حكومة منذ خريف 2017، وقبلها عضو في البرلمان وفي الأحياء الفقيرة ضمن صفوف شبيبة اليسار. 

في عام 2017 كانت الشابة جاسيندا أرديرن (37 عاماً) تعيد لملمة صفوف حزب العمال النيوزيلندي، بعد أن كان في مراحل انهيار وتراجع قبل أسابيع قليلة من الانتخابات العامة. شيء من "غبار السحر" ألقته البرلمانية الشابة منذ 2008 على حزبها، لتقوده في عام مضطرب كانت فيه الشعبوية الغربية تندفع بقوة مجيء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

هي ذاتها التي أعلنت اليوم أنها ستترك منصبها كرئيسة حكومة بلدها في 7 فبراير/ شباط القادم، بصوت يكتم "دمعة" الاعتراف بأنها لم تعد قادرة على أجاء مهمتها الموكلة إليها ديمقراطياً من شعبها، وبرلمانييه. فالمهمة لم تكن يسيرة على أرديرن التي اخترقت "النظام الأبوي" في الحكم، لتنضم في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 إلى "نادي النساء" الحاكمات في 13 بلداً آنذاك (من 190 دولة). صحيح أنها ثالثة رئيسة حكومة في بلدها خلال العشرين سنة الماضية، لكنها في منصبها قدمت تجربة مختلفة عن قدرة المرأة على المزج بين أعلى المناصب والأمومة، إذ هي السياسية الثانية بعد رئيسة حكومة باكستان الراحلة، باناظير بوتو، التي وضعت طفلتها (2018) في أثناء ترؤسها لحكومة بلادها. 

عندما ذهبت نيوزيلندا إلى انتخابات عامة في 23 سبتمبر/ أيلول من 2017، أظهرت أرديرن براعة في مفاوضات سياسية أعادت حزب العمال المتعثر إلى السلطة، في ائتلاف حكومي كان صعب المنال لو لم تحقق ذلك النجاح، بعد أن كانت الاستطلاعات تفيد بكارثة انتخابية تاريخية قبل نحو شهرين من تلك الانتخابات. 

في كلمات برقية تهنئة رئيس حزب العمال البريطاني السابق، جيرمي كوربن لها ما يفسر مصاعب تلك المرحلة من صعود الشعبوية واليمين المتشدد، إذا اعتبر انتصارها "من أجلنا جميعاً". ولم يغفل مرشح الرئاسة الأميركي الأسبق، بيرني ساندرز، عن معنى أن تصل شخصية تتطابق رؤيتها للعدالة الاجتماعية ودولة الرخاء مع أفكاره التقدمية. بالطبع، لم يكن حزن الكندي جاستن ترودو قادماً من الفراغ، بل اعتبرها شريكة هامة، مثلما يعتبرها ساسة وغيرهم من النخب الثقافية قدوة لهم في سياساتها التقدمية. 

جذبت السياسية جاسيندا أرديرن منذ دخولها البرلمان في 2008، بكاريزما وأفكار تقدمية، فئات لم يكن غيرها من رجال يسار الوسط قادرين على مخاطبتهم في 3 دورات انتخابية سابقة. فتوافد الشباب والنساء للتصويت للعمال بفضل "النجمة السياسية"، القادمة من عالم تحقيق الأحلام. على طول الخط بقيت محافظةً على خطاب المساواة الاقتصادية والاجتماعية، والحد من الفقر، ولا سيما في ما يتعلق بالأطفال، الذي كان يتطلب المزيد من الرفاه القائم على تقديم الحكومة لشعبها التعليم الجامعي المجاني، وزيادة المساعدة الطلابية، والمزيد من التركيز على سياسة التوظيف والإسكان ميسور التكلفة، وبذل جهود أكبر من أجل البيئة، لذلك وضعها البعض في مرتبة "الطامحة إلى تحقيق التجربة الإسكندنافية"، التي طمح إليها أيضاً ساندرز لتطبيقها في المجتمع الأميركي. 

لم تنسَ في خططها (وهو ما وسّع من شعبيتها في أوساط من يوصفون باليسار والتقدميين في بلدها) السكان الأصليين من منطقة المحيط الهادئ في مشاريع محاربة الفقر واستحقاقات مساعدة الأطفال وإجازة الأمومة لـ26 أسبوعاً. 

بالرغم من أن الحزب الوطني المحافظ، يمين وسط، حصل على 56 مقعداً (من أصل 120 في البرلمان) إلا أن عدد المشاريع التي طمحت إليها مع حزبها جعلها تدخل في الائتلاف مع حزب البيئة (الخضر) من أجل مقاعده الثمانية، لقاء وعود بتأمين المزيد من الأموال من أجل سياسات بيئية ومناخية أكثر من السابق، وكذلك مع حزب يميني صغير "حزب نيوزيلندا فيرست"، بزعامة ونستون بيترز، للحصول على أصواتهم التسع بعد مفاوضات شاقة، بسبب مواقفه المعارضة للهجرة (أو ما سماه غزو آسيوي لنيوزيلندا)، لكنه في الوقت نفسه، كان يقدم خطاباً عن زيادة دعم المساواة الاقتصادية و"رأسمالية بوجه إنساني"، شأن بعض أحزاب اليمين المحافظ في أوروبا الشمالية. 

أحلام حمراء وخضراء 

نظرت أرديرن على الدوام إلى مسائل العدالة والمساواة كمسائل ذات أولوية، وارتبطت بعلاقات وثيقة مع زملائها في "مجموعة دول الشمال"، وخصوصاً بمن هم أقرب أيديولوجياً إليها في يسار الوسط الفنلندي، سانا مارين، والدنماركي ميتا فرديركسن، ورئيسة حكومة السويد السابقة ماغدالينا أندرسون. 

معرفتها بساسة الدول الأخرى جاءت مبكراً، فحين كانت في الـ21 من عمرها تركت الجامعة بدرجة بكالوريوس في الاتصالات والسياسة، لتصبح في 2001 ضمن طاقم عمل رئيسة وزراء نيوزيلندا آنذاك، هيلين كلارك. كذلك، أصبحت عضواً في البرلمان عام 2008، عندما كانت تبلغ من العمر 28 عاماً. في العام نفسه، انتُخِبَت أيضاً رئيسة للاتحاد الدولي للاشتراكيين الشباب، وهو المنصب الذي جعلها على اتصال مع يسار الوسط وقادته حول أنحاء العالم. 

ومثلما أولت أرديرن اهتماماً مبكراً بالبيئة والتغيرات المناخية، فإنها أيضاً اهتمت بالبرنامج الحكومي الأول بأولوية النظام الصحي وبشكل متساوٍ للجميع، لضمان نمو الأطفال في بيئة صحية تمكنهم من إتمام التعليم، وكسر دائرة الإرث الاجتماعي في الفقر. وفي ذات الوقت، مضت حكومتها نحو "قمع" تلاعب المضاربين بأسواق العقارات. وباشرت حكومتها بجهود مكافحة التغير المناخي والتلوث البيئي، وبمبادرة زرع مليون شجرة سنوياً. وعلى المستوى الاجتماعي، لم يفت أرديرن تحسين أجور الطبقة العاملة، ووضع حد أدنى للأجور يفي بغرض الوصول إلى بعض المساواة في العدالة الاجتماعية، شأنها في ذلك شأن بقية الأحلام الكلاسيكية ذات اللون الأحمر والأخضر التي تحظى باهتمام كبير في الديمقراطيات الاجتماعية حول العالم. 

المهاجرون والمسلمون... تعامل آخر 

بعيد مذبحة مسجدي كرايستشيرش ومقتل 51 شخصاً في 15 مارس/ آذار عام 2019 على يد الأسترالي اليميني المتطرف برينتون تارانت، ظهرت رئيسة الوزراء النيوزيلندية بمظهر أثار إعجاب شعبها، من مختلف العرقيات. حين ارتدت غطاء رأس في زيارتها للتعزية بضحايا الهجوم، وهو جعلها مثلاً أعلى في عيون كثيرين من المسلمين، الذين سيشاركون في الانتخابات التالية بالتصويت الكبير لها ولحزبها. المظهر الذي ظهرت به أرديرن، لم يكن مجرد تصرف سطحي، بل كان مدروساً تماماً في مواجهة الموجة الشعبوية والتطرف القومي الذي كان ينمو قبل سنوات من وقوع المذبحة.

لقد أخذت حكومتها ما جرى بجدية، وشكلت لأجل ذلك لجنة تحقيق في جهود السلطات لمكافحة الإرهاب. فخلص تقرير من 800 صفحة إلى أن السلطات الأمنية ظلت لسنوات تركز "بشكل شبه حصري على الإرهاب بدوافع إسلامية"، من بين نقاط عدة وجهت لجنة التحقيق فيها انتقادات لعمل الأجهزة الأمنية. وخلص إلى أن على نيوزيلندا أن تكون أكثر دقة في مسألة منح رخص السلاح. كل الأخطاء التي عددها التقرير، وإن لم يحمّل السلطات مسؤولية عن كبح الهجوم على المسجدين، جعلت أرديرن تقول: "لم تجد اللجنة أنها كانت ستوقف الهجوم إذا حُلَّت المشاكل، لكن كانت هناك أخطاء، وأنا أعتذر عن ذلك". 

ردها هذا على الهجوم الإرهابي وضعها في بؤرة ضوء عالمية، حيث تلقت إشادة دولية واسعة النطاق لردها على الهجوم. وسرعان ما حظرت بيع نوع الأسلحة شبه الآلية التي استخدمها تارانت. كذلك أشعلت حركة عالمية ضد التطرف على الإنترنت. ذلك كله لم يمنع أيضاً توجيه انتقادات مستمرة للسلطات النيوزيلندية لتجاهلها التحذيرات المتكررة من المجتمعات الإسلامية بشأن ارتفاع جرائم الكراهية ضدهم. 

وأخذت حكومتها بتوصيات لجنة التحقيق الـ44، وأهمها إنشاء مركز استخبارات وأمن وطني جديد، وكذلك تعيين وزير لتنسيق تنفيذ العديد من التوصيات. وأعلنت الحكومة أنها ستعمل على تحسين قدرة الشرطة على التعرف إلى جرائم الكراهية ومكافحتها وجمع البيانات عنها. 

ذات يوم قالت جاسيندا أرديرن في مقابلة مع "بي بي سي" إن مشهد بعض الأطفال الجياع وحفاة القدمين في مسقط رأسها (ولدت عام 1980 في مدينة هاميلتون ونشأت في مورينسفيل وموروبارا) هو ما ألهمها لأن تصبح ناشطة سياسية مع اليسار.

ذات صلة

الصورة
مظاهرة أوكلاند

سياسة

شهدت ساحة "بريتومارت" الشهيرة في قلب أوكلاند (أكبر مدن نيوزيلندا وعاصمتها الاقتصادية) وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية
الصورة
راشد الغنوشي (العربي الجديد)

سياسة

أعلنت حركة "النهضة" التونسية، في بيان اليوم السبت، أن رئيسها راشد الغنوشي دخل ابتداء من اليوم إضراباً عن الطعام لمدة ثلاثة أيام متتالية تضامناً مع القيادي في "جبهة الخلاص الوطني" جوهر بن مبارك المضرب عن الطعام، ودفاعاً عن مطلب كل المعتقلين السياسيين.
الصورة
بعض من الحياة اليومية في غرينلاند (سين غالوب/ Getty)

مجتمع

على الرغم من أن أقلية "الإنويت" جزء لا يتجزأ من الدنمارك، إلا أنها تواجه سياسة عنصرية بنيوية إلى درجة انتزاع أطفال من عائلاتهم، ما دفع الأمم المتحدة إلى التنديد.
الصورة
المركز العربي يعلن نتائج استطلاع المؤشر العربي لعام 2022 (العربي الجديد)

سياسة

أعلن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، اليوم الثلاثاء، عن نتائج المؤشر العربي 2022 الذي نفّذه في 14 بلدًا عربيًا، بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي نحو مجموعة من الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.