تحذير العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، من تبعات أي انسحاب روسي من جنوب سورية، لأن أيّ فراغ يخلقه هذا الانسحاب "سيملأه الآن الإيرانيون ووكلاؤهم"، يؤكد المعطيات الميدانية التي تفيد بأن المليشيات التابعة لحكام طهران تعمل على ترسيخ دائرة نفوذهم في محافظة درعا، المتاخمة للحدود السورية - الأردنية، والسورية مع الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل. وجاءت تصريحات العاهل الأردني في مقابلة بُثّت يوم أول من أمس، الأربعاء، ضمن البرنامج العسكري المتخصص "باتل غرواندز" الذي ينتجه معهد هوفر في جامعة ستانفورد، وأجراها معه أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة، الأسبوع الماضي، الجنرال المتقاعد هربرت ماكماستر.
جنوبي سورية: الأردن يخشى اتساع نفوذ إيران
ويبدو أن المعطيات والوقائع الميدانية في جنوبي سورية تؤكد ما ذهب إليه العاهل الأردني، لجهة اتساع دائرة نفوذ إيران في الجنوب السوري. وذكر تجمع "أحرار حوران"، وهو "مؤسسة إعلامية مستقلة، تنقل أحداث الجنوب السوري"، في تقرير له صدر منذ أيام، أن الجانب الإيراني يستغل الانشغال الروسي في أوكرانيا لتعزيز وتوسيع نفوذه في محافظة درعا.
وتحدث التجمع عن استمرار الإيرانيين في "عمليات تصنيع وتجارة وتهريب المخدرات، داخلياً، وإلى دول الجوار"، مؤكداً أن إيران "تعمل من خلال وكلائها على شراء العقارات، مستغلة الوضع الاقتصادي المنهار للمواطنين ورغبة معظمهم في السفر". وبيّن التقرير أنه لـ"المليشيات الإيرانية شبكة واسعة من السماسرة والوكلاء القادرين على شراء هذه العقارات، بالإضافة إلى تغلغل الوكلاء الإيرانيين في مديرية عقارات درعا، لإتمام عمليات التسجيل بطريقة قانونية".
"تجمع أحرار حوران": إيران تستغل الفوضى الأمنية في الجنوب السوري لابتلاع المنطقة
وأشار التجمع إلى أن المليشيات الإيرانية "تستهدف قيادات وعناصر اللواء الثامن من خلال اغتيالات مرتبطة بها لدفع الجانب الروسي إلى حلّ هذا اللواء، وهو ما يسمح لهذه المليشيات بالسيطرة على ريف درعا الشرقي المتاخم لريف السويداء الغربي". وقال التجمع إن إيران تستغل الفوضى الأمنية في الجنوب السوري لـ"ابتلاع المنطقة"، وبسط السيطرة عليها بشكل كامل.
وبحسب أيمن أبو محمود، المتحدث باسم تجمع "أحرار حوران"، فان المليشيات الإيرانية "تنتشر في العديد من المناطق في محافظة درعا، وخصوصاً في تلال ريفها الشمالي، وفي تل الشعار وتل الكروم في محافظة القنيطرة المتاخمة لدرعا". وبيّن أبو محمود في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الإيرانيين موجودون أيضاً "في مثلث الموت الذي يربط بين محافظات درعا وريف دمشق والقنيطرة"، لافتاً إلى أنه "داخل مدينة درعا، لديهم (الإيرانيين) مقرّان".
وفي السياق، أوضح الناشط محمود العمار، من مدينة درعا، أن الإيرانيين "يتخذون من مقرات الفرق والألوية العسكرية التابعة للنظام في محافظتي درعا والقنيطرة مراكز لهم"، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد (شقيق رئيس النظام بشار الأسد)، ولها وجود في جنوب سورية، هي عملياً فرقة تابعة للحرس الثوري الإيراني"، وفق قوله.
تفاهمات لم تنفذ بين موسكو وعمّان وواشنطن
وكانت كل من روسيا والولايات المتحدة والأردن قد توصلت في أواخر عام 2017، إلى تفاهمات تنص على إبعاد المليشيات الإيرانية عن الحدود الجنوبية لسورية مسافة 70 كيلومتراً، إلا أن هذه التفاهمات لم تنفذ، بل إن الوجود الإيراني ووجود "حزب الله" اللبناني ازداد منذ ذلك الحين، وهو ما حذّر منه العاهل الأردني.
وأعرب المحلل العسكري الأردني، العميد موسى القلاب، في حديث مع "العربي الجديد"، عن اعتقاده بأن الوجود الروسي في سورية "يحفظ الأمن الإقليمي لدول مجاورة، ومنها الأردن"، مضيفاً أنه "إذا انسحبت روسيا من سورية، فإن الفراغ سيزعزع أمن جنوبي سورية، حيث تتمركز مليشيات إيرانية على الحدود الأردنية، وتقوم بعمليات استفزاز مباشرة وغير مباشرة عن طريق عصابات التهريب بكل أنواعه والتي ستسبب تصعيداً خطيراً في المنطقة".
وحول إمكانية تدخل عسكري مباشر من الجيش الأردني في جنوب سورية، يرى القلاب أنه "لن يكون هناك تدخل عسكري أردني مباشر، بل سيقتصر الرد على عمليات الردع بالمدفعية بعيدة المدى، وربما استخدام القوات الجوية".
وكانت القوات الروسية في سورية قد شرعت في مطلع شهر مايو/ أيار الحالي، في عمليات انسحاب وإعادة تموضع في العديد من المناطق، وخصوصاً في حمص، وسط البلاد، وفي محافظة دير الزور، شرقي سورية. كما انسحبت القوات الروسية من مواقع في ريف إدلب، شمال غربي سورية، ومن أخرى في جنوب العاصمة السورية دمشق، إذ من المتوقع أن تنقل روسيا هذه القوات للزج بها في غزوها لأوكرانيا.
وتنتشر الشرطة العسكرية الروسية في العديد من المواقع في محافظة درعا، جنوبي سورية، وهي البوابة السورية المفتوحة على الأردن، كما أن موسكو تدعم اللواء الثامن الذي يضم شباناً من ريف درعا الشرقي، أجروا تسويات مع النظام السوري تحت إشراف روسي.
توقعات بانسحاب روسي قريب
وعاد الجنوب السوري ليخضع بعد الثورة لسيطرة النظام السوري، وذلك في عام 2018، بعد تهديد روسي بشنّ حرب واسعة النطاق، وهو ما دفع فصائل المعارضة السورية في حينه إلى إبرام تسويات مع النظام الذي عاد وأجبر الأهالي على توقيع اتفاقات جديدة في أواخر العام الماضي.
وخلال الأعوام الماضية، ظلّت محافظة درعا ساحة لعمليات الاغتيال المتنقلة، والتي طاولت المئات من أبناء المحافظة على يد خلايا تشير الدلائل إلى أنها تتبع لأجهزة أمنية عدة، تُوجّه من الجانب الإيراني الذي يريد ترسيخ وجوده في جنوب سورية، لقلب الكثير من المعادلات وامتلاك أوراق قوة في سياق المواجهة مع الغرب والعرب.
وأبقت عمّان على اتصالات "محدودة" مع النظام طيلة سنوات الثورة السورية، إلا أنها عادت للانفتاح عليه خلال العام الماضي، حيث أعادت فتح معبر نصيب/ جابر الحدودي مع سورية في أيلول 2021. ومنذ ذلك الحين، أحبطت السلطات الأردنية العديد من عمليات تهريب المخدرات من سورية إلى الأردن، قتل في إحداها ضابط أردني في اشتباك مع مهربين.
وكانت مديرية التوجيه المعنوي التابعة للقوات المسلحة الأردنية قد كشفت عن إحباط 361 عملية تهريب وتسلل عبر الحدود البرية الأردنية خلال العام الماضي، أحبط فيها الجيش الأردني تهريب كميات كبيرة من المواد المخدرة والممنوعة.
العميد موسى قلاب: لن يكون هناك تدخل عسكري أردني مباشر في جنوبي سورية
ويستضيف الأردن منذ عام 2011 نحو مليون لاجئ سوري، منهم حوالي 650 ألف لاجئ مسجلين في الأمم المتحدة.
ويستبعد المحلل السياسي رضوان زيادة أي تدخل عسكري أردني في جنوب سورية في حال تفاقم السيطرة الإيرانية على هذه المنطقة، مذكّراً في حديث مع "العربي الجديد"، بأن الأردن "لم يقم بذلك في عام 2012 على الرغم من وجود دعم أميركي ودولي (حينها)". وأضاف زيادة: "ليست هناك عقيدة عسكرية أو سياسية في الأردن تخول للبلاد التدخل العسكري في سورية. هذا الأمر خارج التفكير اليوم".
بدوره، قال رئيس الجمعية الأردنية للعلوم السياسية، الدكتور خالد شنيكات، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن صانع القرار في الأردن يتوقع انسحاب روسيا من الجنوب السوري، خصوصاً أن الروس يخسرون حالياً في الحرب على أوكرانيا"، وأضاف أنه "في حال استمرت خسارتهم هذه، فإن المنطق يقول إنهم سينسحبون من سورية، أو سيقلصون وجودهم هناك على الأقل".
ورداً على السؤال الذي طرحه العاهل الأردني حول من سيملأ الفراغ، رأى شنيكات أنه "من المؤكد أن إيران ووكلاءها في سورية هم الذين سيملأون هذا الفراغ، فإيران والمليشيات المتعاونة معها لها وجودها في سورية، وفي مختلف المناطق الحسّاسة كدمشق والجنوب السوري".
وأشار رئيس الجمعية الأردنية للعلوم السياسية إلى أن الأردن ينظر إلى أن روسيا تشكل عامل استقرار وتوازن في سورية، وهي طرف يمكن التواصل معه والتفاهم معه أيضاً، وفي حال انسحابها، فهذا يعني غياب التفاهم مع الطرف الآخر، وأن إيران ووكلاءها سيكونون على الحدود الأردنية".
وأشار شنيكات إلى أنه خلال الفترة الماضية، شهدت المناطق الحدودية صدامات بين الجيش الأردني وعصابات إجرامية تقوم بتهريب المخدرات، مضيفاً أنه في حال انسحاب روسيا، فإن عمّان ترى أن التوتر سيزداد على الحدود، بالإضافة إلى نشاط العصابات الإجرامية، مذكراً بأن آخر هذه الأحداث ومحاولات تهريب المخدرات جرت عبر طائرات مسيّرة في الأسبوع الماضي.
يخشى الأردن من مشكلة أمنية كبيرة، سواء بعمليات التسلل أو تهريب المخدرات
وفي هذا السياق، قال شنيكات إن قراءة الأوضاع من قبل الأردن هي أن "مرحلة من عدم الاستقرار" ستدخل في حال الانسحاب الروسي، لافتاً إلى استخدام الملك الأردني كلمة توتر، ما يعني أن الحدود قد تشهد مستقبلاً مناوشات وقصفاً متبادلاً بين الجيش الأردني وهذه المليشيات.
وشدّد شنيكات على أن تحذير العاهل الأردني هو عبارة عن خطوة استباقية وتحذيرية للغرب والعالم في حال انسحاب روسيا، وهي رسالة بأن على الجميع إنهاء الحرب في أوكرانيا، لأن ذلك ينعكس على السلم أيضاً في منطقة الشرق الأوسط، ورأى أن أي متغيرات قد تزيد الضغط السياسي والعسكري على الأردن، علماً أن السؤال هو هل ستتواصل عمّان مع هذه المليشيات في حال تبدل الأوضاع، لافتاً إلى أن السياسة الواقعية تقول إن الحفاظ على الأمن لأي دولة يشكل أولوية قصوى لها.
بدوره، قال الخبير الأمني والعسكري جلال العبادي، لـ"العربي الجديد"، إن من شروط إعادة الهدوء إلى منطقة الجنوب السوري هو أن تكون هذه المنطقة تحت سيطرة القوات الروسية، وليس تحت سيطرة فصائل أو مليشيات أو حتى القوات السورية، ولذلك فقد كان هناك هدوء نسبي في الفترة القريبة الماضية.
وأضاف أنه مع بدء تخفيف عدد القوات الروسية، من المتوقع أن تكون السيطرة الكبرى للمليشيات الإيرانية والعراقية، التي تسيطر على المنطقة الشرقة الجنوبية بدعم من الفرقة الرابعة، وليس الفصائل الأخرى أو قوات النظام، ما سيشكل مشكلة أمنية كبيرة للأردن، سواء بعمليات التسلل أو تهريب المخدرات.
ورأى العبادي أنه ينبغي على الجيش الأردني تكثيف الدوريات والمراقبة بشكل أكبر، ودعم قوات حرس الحدود، ورأى أن الأردن لن يكون وحده من سيتأثر نتيجة سيطرة المليشيات الإيرانية على الحدود، فهذا الأمر سينعكس على استقرار المنطقة، ومن الممكن أن يصل إلى الجولان المحتل، وهو ما يجب أن يكون في سلّم أولويات الولايات المتحدة.
وتحدث الباحث أخيراً عن وجوب إمداد الأردن ومساعدته لتشديد الرقابة على الحدود، من قبل المجتمع الدولي، وتجهيز الجيش الأردني بشكل إضافي بآليات رقابة متطورة وحديثة وطائرات مسيّرة للسيطرة على الحدود ومواجهة خطر المليشيات المتوقع.