وفقاً لـ"معهد القدس لبحث السياسات" المتخصص في دراسة وأبحاث تتعلق بمدينة القدس، الغربية والشرقية المحتلة، بلغ عدد السكان في القدس الشرقية عام 2020 قرابة 367 ألف نسمة يشكلون نحو 39 في المائة من مجمل السكان في القدس، يسكن منهم قرابة 74 ألف نسمة في الأحياء العربية خارج جدار الفصل العنصري.
يعاني الفلسطينيون في القدس الشرقية من أحوال اقتصادية واجتماعية صعبة، تتمثل في نسبة مرتفعة جداً للفقر (حوالي 61 في المائة) مقارنة بـ 32 في المائة في القدس الغربية. وبلغت نسبة المشاركة في سوق العمل عام 2021 وفقاً لذات المعهد نحو 47 في المائة (69 في المائة لدى الرجال و26 في المائة لدى النساء العربيات)، مقارنة بنحو 76 في المائة لدى السكان اليهود في القدس الغربية.
احتواء فلسطينيي القدس الشرقية
عملت المنظومة الإسرائيلية في العقدين الأخيرين، على تنفيذ سياسات سلخ وفصل الفلسطينيين في القدس عن بقية الشعب الفلسطيني، ومن ضمن ذلك قامت بإغلاق المؤسسات الفلسطينية الوطنية، وحظر عمل السلطة الفلسطينية في القدس، وملاحقة محافظ القدس وفرضت عليه الإقامة المنزلية الجبرية، ورفع وتيرة الملاحقات الأمنية.
بالتوازي، وعملاً بنصيحة مراكز أبحاث عديدة، ومنها "معهد القدس لبحث السياسات" ولجان حكومية، تقوم إسرائيل بخطوات عديدة في محاولة لاحتواء الفلسطينيين في القدس في الجانب الاقتصادي وتعزيز التعبئة للاقتصاد الإسرائيلي، من حيث أماكن وفرص العمل ومصادر الدخل، وتقليص الفرص الاقتصادية في القدس الشرقية، والتضييق على المؤسسات التعليمية العربية وفرض نظام التعليم الإسرائيلي وأسرلة مناهج التعليم، وربط ذلك بالميزانيات الحكومية، ومحاولة دمج الطلاب العرب في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.
يشدد الاحتلال على فرض منهاج التعليم الإسرائيلي على المدارس العربية
وقد أقرت الحكومات الاسرائيلية في العقد الأخير عدة خطط تحت مسميات تطوير القدس الشرقية لهذا الغرض، بدأت في عام 2018، وكان آخرها إقرار الخطة الحكومية الخماسية "لتقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية" للسنوات 2024 - 2028 في القدس المحتلة، مطلع الأسبوع الحالي، بعد أن رفض قبلها بعدة أيام وزير المالية بتسلئيل سموتريتش استمرار تحويل ميزانيات بقيمة 200 مليون شيكل (نحو 53.1 مليون دولار، الدولار يساوي 3.77 شيكل) لمشاريع دمج الطلاب العرب في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.
تبلغ قيمة مجمل الخطة الخماسية الجديدة 3.2 مليارات شيكل، بينها 2.45 مليار شيكل من ميزانيات الوزارات، وحوالي 750 مليون شيكل من ميزانيات بلدية القدس وسلطة الابتكارات وشركة الكهرباء وغيرها.
هذه الميزانية أكثر بحوالي مليار شيكل من ميزانية الخطة الخمسية السابقة للقدس المحتلة، التي بلغت 2.1 مليار شيكل عام 2018. وحسب قرار الحكومة، تشمل الخطة الخمسية استثمارات في البنية التحتية والتعليم والصحة وتشجيع التشغيل والرفاه وجودة البيئة. والتزمت الحكومة الإسرائيلية في هذه الخطة ببناء ألفي شقة للفلسطينيين في القدس المحتلة سنوياً.
خصصت الخطة 800 مليون شيكل للتعليم، مع التشديد على فرض منهاج التعليم الإسرائيلي على المدارس العربية، 260 مليون شيكل لتشجيع العمل، 770 مليون شيكل للمواصلات، 100 مليون شيكل للمباني العامة، 120 مليون شيكل للرفاه الاجتماعي، 415 مليون شيكل لتحسين الحيز العام، و120 مليون شيكل لتحسين الأمن الشخصي، و50 مليونا لمبادرات التقنيات الحديثة (هاي تك).
خطة لدمج الطلاب العرب
وفي ما يتعلق بتعزيز التعليم العالي في القدس المحتلة، تقرر تشكيل لجنة "لمراقبة تحويل الأموال"، مؤلفة من مندوبي وزارة المالية ووزارة القدس و"تراث إسرائيل" وبلدية القدس، من أجل وضع "خطة لمنح المؤهلات المطلوبة لدمج الطلاب العرب من القدس الشرقية المحتلة بالتشغيل بفروع اقتصادية ذات إنتاجية مرتفعة".
كما وافقت الحكومة على طلب وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، أن تشمل الخطة بنداً يقضي بتمويل زيادة عدد أفراد الشرطة ومفتشي البلدية وإضافة كاميرات مراقبة، وإقامة مراكز أخرى للشرطة في القدس المحتلة.
وقد صرح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بعد إقرار الخطة بأنها جاءت "لمصلحة القدس الموحدة والقوية"، وترمي إلى تعزيز الحوكمة والنظام في القدس. وأوضح رئيس بلدية القدس الغربية موشي ليون، أن هذه الخطة تعني "ممارسة السيادة في القدس وإيصال رسالة مفادها أن القدس هي مدينة واحدة موحدة".
ومن المفترض أن تحل الخطة محل الخطة السابقة من عام 2018، والتي كانت أكبر استثمار للحكومة الإسرائيلية في القدس المحتلة منذ عام 1967. وقد حسنت الخطة عدداً من الجوانب الشكلية، مثل مجالات البنية التحتية وفرص العمل وجودة البيئة، إلا أنها شملت أهدافاً خطيرة، من ضمنها مسألة تسجيل الأراضي تحت مسمى "تسجيل الأراضي في القدس الشرقية" من أجل تشجيع إجراءات التخطيط والبناء، التي ترمي في واقع وضع عقبات وصعوبات على تسجيل الأراضي بملكية عربية غير المسجلة منذ احتلال القدس عام 1967 ويرفض أصحابها تسجيلها.
وأيضاً تسهيل تسجيل الأراضي بملكية يهودية. وفعلاً ساعدت الخطة المنظمات الاستيطانية على تسريب أراض فلسطينية وتسجيلها. من هنا، رفض المقدسيون التعاون في جانب تسجيل الأراضي ولم يقدموا على ذلك.
الجانب الآخر الذي تحاول الخطط، السابقة والحالية فرضها، هو أسرلة مناهج التعليم في مدارس القدس الشرقية، وفرض المنهاج الإسرائيلي على المدارس العربية وربط الميزانيات الحكومية بذلك. واشترطت الخطط الحصول على ميزانيات بتبني المنهاج الإسرائيلي ورقابة وزارة التربية والتعليم، أي فرض سيطرة كاملة لوزارة التربية والتعليم الإسرائيلية على المدارس العربية ومناهج التعليم.
كذلك عملت وزارة التربية والتعليم من خلال تمويل سخي لبرامج تعليم غير منهجية، على احتواء الطلاب العرب ومحاولة إبعادهم عن النضال الوطني عن طريق فعاليات غير منهجية بعد ساعات الدوام، ما أُطلق عليه "اليوم الدراسي المطوّل" الذي شمل بقاءَ الطلبة في مدارسهم بعد انتهاء الدوام، في محاولة لمنع مشاركتهم في احتجاجات القدس وضواحيها.
أظهرت ورقة بحثية سعي الاحتلال إلى إبعاد الطلبة العرب عن الاحتجاج
توضح الباحثة أنوار قدح في ورقة بحثية بعنوان "التعليم في القدس في ظل حكومة (نفتالي) بينت (يونيو/حزيران 2021 ـ يونيو 2022)... إلى أين؟" (نشرت في مدى الكرمل في مايو/أيار 2022)، أنه في العام الدراسي 2014-2015، وبعد صيف حافل بالاحتجاجات شهدتْه القدس إثر استشهاد الطفل محمد أبو خضير، أُطْلِقَ برنامج اليوم الدراسيّ المطوَّل في تسع مدارس، وقد اختيرت تلك المدارس التي اعتُقِل عدد كبير من طلبتها بتهمة إلقاء الحجارة، أو تلك التي تقع في مناطق المواجهات مع الشرطة، كالعيسويّة وسلوان وشعفاط على سبيل المثال. بلغت تكلفة البرنامج في ذلك العام 900 ألف شيكل، وذلك بهدف إلهاء الطلبة في هذه البرامج وتقليل مشاركتهم في عمليات الاحتجاج في القدس المحتلة.
تغيير الحالة المعيشية والاقتصادية
الصحافي نير حسون نشر في عام 2022 متابعة مفصلة للخطة الحكومية السابقة، وأوضح أن اقتراح الخطة جاء حينها نتيجة شراكة مثيرة لعدد من رجال أمن سابقين عملوا في "الشاباك"، وموظفين كبار في وزارة المالية وسياسيين من أحزاب اليمين، الذين اقتنعوا بأنه لا يمكن تغيير الحالة السياسية والتعامل مع الجوانب الأمنية في القدس، بمعزل عن محاولة تغيير الحالة المعيشية والاقتصادية، كما لا يمكن تغيير الأوضاع الاقتصادية في مدينة القدس من دون تغيير الحالة في القدس الشرقية المحتلة. بهذا المعنى، يمكن القول إن الخطط الاقتصادية تأتي لتحقيق أهداف أمنية وسياسية إسرائيلية بالأساس.
بدأ التحول في السياسات تجاه القدس الشرقية المحتلة منذ عام 2014، بإقامة لجنة حكومية للتعامل مع تردي في الحالة الأمنية، وتزايد مشاركة الشباب الفلسطيني في عمليات إلقاء حجارة وحوادث أمنية. وخلصت اللجنة إلى الحاجة لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين في القدس كجزء من التعامل مع الحالة الأمنية.
أي أن الحكومة الإسرائيلية تريد تصوير أن أسباب الاحتجاج للسكان الفلسطينيين في القدس الشرقية هي اقتصادية ومعيشية، وترمي إلى تفريغ النضال الوطني من معانيه السياسية وتحويله إلى احتجاج ضد أزمة اقتصادية أو ضائقة مالية واجتماعية، يسهل عليها التعامل معها، وتسعى لفرض الأسرلة وتغيير الذهنية الفلسطينية.
الحكومة الإسرائيلية التي تعمل على تقييد العمل السياسي الوطني في القدس المحتلة، ترمي إلى تأبيد الاحتلال وتحويله إلى أمر واقع لا يمكن للفلسطيني إلا التعامل معه، واستكمال فصل وسلخ المقدسيين عن بقية الشعب الفلسطيني عن طريق زيادة تعلقهم وتبعيتهم للاقتصاد اليهودي، ولخدمات المؤسسات الإسرائيلية، وفرض المناهج الإسرائيلية على المدارس العربية في القدس، واحتواء الشباب في المؤسسات التعليمية الأكاديمية في القدس، وتحسين الحالة المعيشية الاقتصادية بعض الشيء.