بعد مرور خمسة أعوام على صدور قرار من محكمة التحكيم الدولية الدائمة في لاهاي لصالح الفيليبين يدحض مطالب بكين في بحر الصين الجنوبي، بما في ذلك المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للفيليبين، لا تزال سلطات مانيلا تواجه ضغوطاً شعبية بسبب ما يعتبره مراقبون تواطؤاً من رئيس البلاد رودريغو دوتيرتي، مع نظيره الصيني شي جين بينغ، لتجاوز قرار المحكمة مقابل مكاسب مالية ومساعدات اقتصادية. وتدعي كل من الصين والفيليبين سيادتهما على سلسلتي جزر أراسيل وسبراتلي، كما تتمسك كل من الدولتين بالسيادة على شعاب سكاربره (التي يطلق عليها الصينيون اسم جزيرة هوانغيان) التي تبعد مسافة 160 كيلومتراً عن الفيليبين و800 كيلومتر عن الصين.
وكانت محكمة التحكيم الدولية الدائمة في لاهاي قد أصدرت حكماً في 12 يوليو/ تموز عام 2016، يقضي بأن الصين لا تملك حقوقاً تاريخية تخول لها حق امتلاك القسم الأكبر من بحر الصين الجنوبي، وبعدم أحقية المطالب الصينية بالسيادة على الجزر التي تطالب فيها الفيليبين. واعتبرت المحكمة أن بكين انتهكت حقوق مانيلا السيادية، في منطقتها الاقتصادية الحصرية من خلال التدخل في أعمال الصيد واستخراج النفط الفيليبيني وبناء جزر اصطناعية وعدم منع الصيادين الصينيين من الصيد في تلك المنطقة.
يُتهم دوتيرتي بإقامة علاقات ودية مع الصين على حساب مصالح شعبه
وتزامناً مع الذكرى الخامسة للحكم، دعت الإدارة الأميركية الأحد الماضي الصين إلى الامتثال لحكم المحكمة والكف عن سلوكها الاستفزازي، وحذرتها من أن أي هجوم مسلح يستهدف القوات الفيليبينية في بحر الصين الجنوبي، من شأنه أن يستدعي التزامات الدفاع المتبادل بين واشنطن ومانيلا بموجب المادة الرابعة من معاهدة الدفاع المشترك الموقعة بين البلدين عام 1951.
وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد اتهم الصين قبل أيام بمواصلة ترهيب دول الجوار في جنوب شرق آسيا بشأن مطالبها القانونية. وقال إنه لا يوجد مكان في العالم يتعرض فيه النظام البحري القائم على القواعد للتهديد، أكثر من بحر الصين الجنوبي.
في المقابل، يُتهم الرئيس الفيليبيني رودريغو دوتيرتي بإقامة علاقات ودية مع الصين على حساب مصالح شعبه، على الرغم من تأييد المحكمة الدولية لمطالب بلاده في المناطق المتنازع عليها، واستمرار قوات البحرية الصينية في اختراق تلك المناطق وإقامة منشآت عسكرية. واعتبر دوتيرتي في وقت سابق أن استخدام قرار التحكيم لتأكيد حقوق الفيليبين في المنطقة لن يكون مجدياً لأنه لن يؤدي إلا إلى إشعال حرب مع الصين، ووصف القرار بأنه مجرد ورقة سيرميها في سلة المهملات.
ويعتقد محللون أنه لو كانت مانيلا أكثر حزماً خلال السنوات الخمس الماضية، ولو لم تنشغل في إرضاء بكين، لكان بالإمكان استثمار قرار المحكمة في نزع الشرعية عن المطالب الصينية في بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي كان سيجعل بكين أكثر عرضة لضغوط القوى العالمية.
وحول السياسة التي انتهجتها الصين مع الفيليبين للتأثير على موقفها من قرار المحكمة الدولية، قال الباحث في "معهد الجنوب للدراسات الدولية"، وانغ خه، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "بكين نجحت إلى حد بعيد في استثمار علاقاتها الجيدة مع الرئيس دوتيرتي الذي وصل إلى سدة الحكم قبل أسابيع من قرار المحكمة"، مشيراً إلى أن "الرئيس الفيليبيني اتبع سياسة مغايرة تجاه الصين عن سلفه الراحل بنينو أكينو، خصوصاً في ما يتعلق بملف الجزر المتنازع عليها بين البلدين في بحر الصين الجنوبي".
وأضاف وانغ أنّ "الصين استفادت من نهج دوتيرتي الذي اتبع منذ وصوله إلى السلطة عام 2016 سياسة خارجية أقل اعتماداً على الإدارة الأميركية"، مستشهداً بقراره العام الماضي إنهاء العمل باتفاق دفاعي مع واشنطن، فضلاً عن تهديداته المتكررة بتخفيض مستوى التحالف مع الولايات المتحدة مقابل التقارب مع الصين وروسيا. وشدد وانغ على أن ذلك "خدم الأجندة الصينية في بحر الصين الجنوبي، وقد قوبل بحزمة مساعدات اقتصادية لمانيلا تجاوزت قيمتها 20 مليار دولار، بالإضافة إلى تسليمها دفعة جديدة من لقاح كورونافاك المطور من قبل شركة سينوفاك بيوتيك الصينية، لتكون الصين بذلك أول دولة تمنح الفيليبين لقاحات للبدء بحملة تطعيم وطنية في البلاد".
الصين استفادت من نهج دوتيرتي الذي اتبع سياسة خارجية أقل اعتماداً على الإدارة الأميركية
من جهته، قال الباحث ليو تشين، المتخصص في شؤون شرق آسيا، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "في الوقت الذي استشهدت فيه دول أخرى تطالب بالسيادة في بحر الصين الجنوبي بقرار هيئة التحكيم لتعزيز موقفها أمام المجتمع الدولي، كانت إدارة دوتيرتي منشغلة في خطب ود الصين". واعتبر أن ذلك "أعطى الضوء الأخضر للقوات الصينية لتعزيز دفاعاتها الجوية في المنطقة، من خلال بناء قواعد عسكرية متقدمة، بالإضافة إلى استصلاح بعض الجزر للاستفادة من الثروات الحيوانية والموارد الطبيعية، خاصة جزر سبراتلي المتنازع عليها بين البلدين". ولفت ليو إلى أنه "لم يعد بالإمكان إخفاء تواطؤ مانيلا مع بكين"، مشيراً إلى اتهامات جديدة صدرت قبل أيام على لسان وزير الخارجية الفيليبيني السابق، ألبرت ديل روزاريو، الذي قال إنّ مصادر دولية موثوقة أبلغته بأن القيادة الصينية تفاخر بأنها تمكنت من التأثير على الانتخابات الفيليبينية عام 2016 كي يصبح دوتيرتي رئيساً. لكن متحدثاً باسم الأخير نفى في وقت لاحق هذه الاتهامات ووصفها بأنها هراء.
ويتحمل الصيادون الفيليبينيون العبء الأكبر من تبعات "السياسة الوديعة" التي ينتهجها رئيسهم تجاه الصين، إذ منعوا من الصيد في مناطق تعتبر ضمن السيادة الفيليبينية. وبحسب أرقام حكومية صادرة عن مانيلا، فإن أكثر من نصف مليون صياد فيليبيني فقدوا مصدر رزقهم بسبب الأنشطة العسكرية في بحر الصين الجنوبي، بل أكثر من ذلك، بات بعضهم يستورد الأسماك التي يصطادها الصينيون في مياههم الإقليمية.
يتحمّل الصيادون الفيليبينيون العبء الأكبر من تبعات السياسة الوديعة التي ينتهجها رئيسهم تجاه الصين
يشار إلى أن بحر الصين الجنوبي يعتبر واحداً من أهم الممرات البحرية العالمية، ويحتوي، بحسب تقديرات دولية، على احتياطيات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي، تقدر بنحو ثلاثين مليار طن من النفط، وأكثر من 15 تريليون متر مكعب من الغاز، فضلاً عن الثروات السمكية التي تغذي 300 مليون شخص في المنطقة.
وتطالب بكين ببحر الصين الجنوبي كاملاً تقريباً، وتعارض أي تحركات عسكرية أميركية في المنطقة، بينما تصرّ دول أخرى (الفيليبين، فيتنام، ماليزيا، سلطنة بروناي) على ملكية أجزاء من البحر الذي تمر عبره ثلاثمائة سفينة شحن يومياً، بقيمة سنوية تتجاوز 5 تريليونات دولار.