ضغوط شعبية على حكومة الدنمارك: تحول مواقفها تجاه قضية فلسطين

13 ديسمبر 2023
غضب شعبي في الدنمارك منذ بداية الحرب على غزة (العربي الجديد)
+ الخط -

بدأت تتبلور حالة شعبية ضاغطة على حكومة الدنمارك برئاسة ميتا فريدركسن (من الاجتماعي الديمقراطي/يسار وسط) لتبني سياسات مختلفة عن تلك التي وصفت محلياً بأنها "تأييد أعمى" لدولة الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى جانب اتساع رقعة رافضي السردية الصهيونية من جهة وتوسع نطاق فهم قضية فلسطين ودعم شعبها في مقاومته للاحتلال.

ومنذ الأسبوع الماضي، انطلقت في عموم الدنمارك حملة شعبية بعنوان "مبادرة الشعب" لنقاش حول القضية الفلسطينية والدعوة إلى وقف العدوان على غزة والمساهمة إنسانياً في إنقاذ الفلسطينيين. والمبادرة الشعبية هي تقليد ديمقراطي دنماركي برفع عريضة موقعة من 50 ألف مواطن لمناقشة قضية بعينها في البرلمان. خلال يومين فقط كانت العريضة قد وقعت من أكثر من 80 ألف شخص، وهي سابقة لم تحظَ بمثل هذا الدعم السريع، مع تواصل التوقيع قبل أن تقدم يوم الجمعة المقبل إلى البرلمان.

الصورة
حملة شعبية في عموم الدنمارك/سياسة/العربي الجديد
حملة شعبية دعماً لفلسطين في عموم الدنمارك(العربي الجديد)

يؤكد الباحث والكاتب السياسي جون غراوسغورد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن الطبقة السياسية في الدنمارك أدركت مدى الضغوط الشعبية، ما دفعها إلى ما وصفه بـ"مفارقة غير متوقعة"، ويشير إلى اتخاذ رئيسة الحكومة فريدركسن ووزير خارجيتها لارس لوكا راسموسن موقفاً ملموساً، حيث تبنيا بياناً اسكندنافياً يدعو إلى وقف إطلاق النار قبل يومين. ويعكس هذا التحول رد الحكومة على انتشار الاستياء الشعبي من سياسات الدولة وازدواجية المعايير.

كما يؤكد غراوسغورد، الذي تتجاوز خبرته الأربعة عقود في متابعة الشأن الفلسطيني، أن ما جرى في الجمعية العامة للأمم المتحدة وتصويت كوبنهاغن، إلى جانب القرار الداعي لوقف إطلاق النار، يعد "مؤشراً إضافياً إلى بداية استيعاب الائتلاف الحاكم لضرورة التحرك، مُظهراً استعداداً للنزول عن شجرة التعنت الذي أبدته فريدركسن".

تغير مواقف فريدركسن

الإشارات إلى تغير مواقف فريدركسن تظهر إلغاء العديد من المواقف السابقة المعارضة، وتبرز تعاطفها مع قضية غزة، كما تجيب بإيجابية عن سؤال حول وضع زهور تكريماً لضحايا الفلسطينيين في غزة، مؤكدة عليه "بتأكيد قاطع". هذا التحول تعتبره وسائل الإعلام "تحولاً جوهرياً في الموقف".

بجانب تصريحات غراوسغورد، يؤكد السياسي اليساري وعضو قيادة الحزب اليساري "اللائحة الموحدة" هانس يورن فاد لـ"العربي الجديد"، أن "بداية تغيير مواقف فريدركسن ترتبط بسياق أوروبي، خاصة في ظل تخبط السياسة الإسرائيلية وتصاعد التطرف في مواقف رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو وزمرته".

يُلاحظ أن شوارع الدنمارك تشهد استمراراً لحالة الغضب على مدى أسابيع خلال فترة الحرب على غزة. يعكس هذا الغضب ردود الفعل إزاء الأخبار المروعة حول الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، وقد أصبح من الصعب إخفاء هذه الوقائع. ويظهر جيل جديد في الغرب يتجاوز الطبقات السياسية الحاكمة في أوروبا، ويتبنى مواقف مختلفة تجاه الأحداث، بحسب ما يؤكد يورن فاد.

ويبدو أن الحرب على غزة أصبحت، خلال الأسابيع الأخيرة، منصة لتحولات غير مسبوقة منذ مجزرة صبرا وشاتيلا (التي ارتكبتها إسرائيل في لبنان عام 1982)، وفقاً لتصريحات هذا السياسي اليساري.

ووفقًا لمعلومات خاصة بـ"العربي الجديد"، فقد كان "ائتلاف الحكومة بين اليسار والوسط يعتزم اتخاذ مواقف أخطر من حالة النفاق التي أظهروها مع غزة. كانت هناك توجيهات برفع الأعلام الإسرائيلية إلى جانب الأعلام الأوكرانية على مباني البلديات بعد الثامن من أكتوبر الماضي". وتشير المصادر إلى أن "هناك معارضة شديدة ظهرت من قبل أحزاب يسارية، مثل البديل الأخضر وحزب الشعب الاشتراكي واللائحة الموحدة، لإفشال هذه الفكرة التي استمرت في التداول حتى الأسبوع الماضي".

وتشير مصادر "العربي الجديد" إلى أن "اتساع الاحتجاجات الشعبية في الدنمارك دفع جهاز الاستخبارات (بيت) والشرطة الوطنية إلى التحذير من اتخاذ خطوات إضافية قد ترسل رسائل خاطئة لأجيال الشباب في البلد، مع احتمال خلق أجواء تشدد في صفوفهم".

وتجدر الإشارة إلى أن المعارضة اليسارية عرقلت جهود فريدركسن في محاولتها ربط هتافات المتظاهرين بـ"معاداة السامية"، حيث حاولت استخدام هتاف "من البحر إلى النهر فلسطين ستتحرر"، كذريعة لمحاولة تجريم الاحتجاجات. يبدو أن مشاركة الأجيال الشابة في حركات الاحتجاج على مدى شهرين خلقت تحديات في صفوف الحزب الاجتماعي الديمقراطي (الذي تتزعمه ميتا فريدركسن)، حيث اعتبر الجناح الأقرب إلى اليسار في الحزب أنه يظهر بمظهر يشير إلى أن الحزب والبلاد ضد الفلسطينيين، ويوافق على الخطاب المتطرف الذي يتخذه أركان الحكم في تل أبيب.

مبادرة الشعب

على المستوى ذاته، لم تنجح المحاولات الإعلامية التي حاولت تجاهل حركات الشارع وتصويرها باعتبارها تمثل الأقلية الفلسطينية في الدنمارك. فقد شملت مشاركة شباب دنماركي في الفعاليات وتوقيعهم على عريضة "مبادرة الشعب" للبرلمان. ويؤكد الناشط الشاب إيميل روزنغورد، في هذا السياق، لـ"العربي الجديد"، أن "استمرار الفعاليات الضاغطة والهتافات التي وصلت إلى آذان السياسيين حرمتهم من فرصة تجاهل هذه الحركات وشيطنتها وردها فقط إلى من هم من خلفيات مهاجرة"، مشيراً إلى أن هذه "المشاركة الشابة تعتمد بشكل أساسي على قضايا العدالة والظلم بدلاً من الانتماء إلى تيار سياسي معين".

وأكدت الشابة الدنماركية ريكا كريستنسن أن "سردية الاحتلال الإسرائيلي فقدت معانيها بعدما ظهر الاحتلال على حقيقته التي حاول تغييبها طيلة 75 عاماً. فقد منحت الحرب على غزة الجيل الشاب فرصة تنشيط المعلومات من خلال مواقع التواصل والمواقع الإخبارية لفهم عدالة قضية فلسطين، ومدى التساوي بينها وبين الأبرتهايد الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا سابقاً".

في الواقع، بدأت الدعوات إلى حركة مقاطعة البضائع الإسرائيلية تكتسب نشاطاً بين الدنماركيين. بمجرد إعلان شركة بوما عن قرارها بوقف رعايتها لمنتخب الاحتلال لكرة القدم، انتشرت التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي في الدنمارك. كتبت الشابة يوليا: "الآن يمكنني شراء بوما كهدية في عيد الميلاد"، في حين دعا بيير إلى "مقاطعة كل شيء له علاقة بإسرائيل". تلقت بوما العديد من التعليقات الإيجابية من الدنماركيين، حيث شكرها البعض على قرارها وشجعوها على حملة المقاطعة.

وفي سياق أعياد الكريسماس، عبّر إريك، الذي يعتبر نفسه دنماركياً ومسيحياً، عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، قائلاً: "قلبي ينزف لشعب فلسطين الآن، وكثيرون من محيطي يشعرون بالشيء نفسه. كيف يعتقد الإسرائيليون أن لديهم الحق في قتل الأطفال والنساء؟ إنه أمر مرعب أن يعتبروا أنفسهم متحضرين". واعتبرت العديد من الرسائل أنه "يجب أن يتوقف العالم عن حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني على الأقل".

وفي السياق نفسه، كتبت ساشا كريستنسن قصيدة تعبيراً عن "عار القتل الذي طاول النساء والأطفال"، لتعبر عن تضامنها مع الفلسطينيين في أعياد الميلاد. كما سجلت ماريان روزا أغنية تندد بالقتل، معتبرة أنه لن تكون هناك أجواء ميلاد بالنسبة لها ما دامت هناك حرب إبادة، "ولمن سيحتفلون أكتب لهم هذه الأغنية". في كلماتها، أشارت إلى "جرائم القتل في المستشفيات وقصف أطفال غزة"، وأشياء أخرى تتعلق بـ"إسالة إسرائيل للدماء". كما أشارت لينا كيير إلى "قتل إسرائيل أكثر من 9400 طفل في غزة منذ السابع من أكتوبر، في حين لم يقتل في حرب بوتين (الرئيس الروسي فلاديمير) منذ عام 2022 أكثر من 540 طفلًا في أوكرانيا"، داعية إلى الوقوف ضد "دولة الأبرتهايد وجرائم حربها والإبادة ضد الفلسطينيين".

مقاومة الاحتلال أم إرهاب

في ندوة سياسية، نظمت، أمس الثلاثاء، بعنوان "مقاومة الاحتلال أم إرهاب؟"، قدم بعض كبار السن الذين عاشوا في الكيبوتسات (مستوطنة زراعية وعسكرية) في بداية سبعينيات القرن الماضي شهادات تبرز مواقف جريئة لم يسبق طرحها من قبل، مؤكدين إيمانهم بأن "دولة إسرائيل ليس لديها مستقبل". على سبيل المثال، قال فريدي، البالغ من العمر سبعين عاماً، والذي عاش في كيبوتس في عام 1972: "اكتشفت بعد ذلك أن هناك شيئاً غير صحيح، ووصلت اليوم إلى قناعة بأنه لم يعد هناك حتى مستقبل لسلام يقوم على حل الدولتين. لا أعرف كيف يمكن التخلص من أكثر من 850 ألف مستوطن في الضفة الغربية، وكيف يمكن لدولة تمارس كل هذه الجرائم وتؤسس لأساطير دينية أن يكون لها مستقبل كدولة أبرتهايد في فلسطين".

ومع ذلك، حتى مع الاقتناع الكامل لدى شرائح كثيرة من غير الشباب بأن للشعب الفلسطيني الحق في التخلص من الاستعمار ومقاومته، يظل بعضهم من كبار السن يشعر بتردد في التعبير الصريح والعلني. يوضح الباحث غراوسغورد أن ذلك "مرتبط بهستيريا تهم معاداة السامية، ومحاولة خلط انتقاد الصهيونية ودولة الاحتلال وكأنها مواقف ضد اليهود، فخيراً يفعل الفلسطينيون في الدنمارك وأوروبا حين يوضحون أن مشكلتهم ليست مع اليهود، الذين بالمناسبة ينشطون أيضا ضد الصهيونية".

ويتوقع غراوسغورد "تغييراً أكثر في الأوقات القادمة على مستوى المواقف السياسية، في سياق أوروبي أوسع، بعيداً عن الشعارات المستهلكة السابقة عن العملية السياسية، بل سيتوجب البحث عن أجوبة جذرية تتعلق برفع الظلم التاريخي عن الشعب الفلسطيني".