تؤكد المؤشرات في تونس أن الأيام الآتية ستكون ساخنة جداً، وقد تحسم توجه الصراع العام في الفترة المقبلة. ففيما يصرّ الرئيس قيس سعيّد على مشروعه الخاص، ويكاد لا يكترث لأي رأي معارض، ويؤكد مرة بعد أخرى أنه سيبدأ في تنفيذه بداية عام 2022، كما أعلن سابقاً، تصرّ المعارضة في المقابل على التصعيد والذهاب في سلسلة احتجاجات تأمل أن تنتهي يوم 14 يناير/ كانون الثاني الحالي (ذكرى الثورة التونسية) بإسقاط الانقلاب، كما تقول.
بين مشروع قيس سعيّد واستعدادات المعارضة
وشدد سعيّد، مساء الأربعاء الماضي، في اجتماع مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن، على أنه "من الضروري تنظيم الاستشارة الإلكترونية (بشأن الإصلاح السياسي) في موعدها، أي بدءاً من يوم 1 يناير الحالي، على أن تتواصل إلى غاية شهر مارس/ آذار المقبل، ليتم فيما بعد التوليف بين جميع الآراء التي سيتم الإدلاء بها، وتقوم لجنة بعد ذلك بتجسيد هذه المقترحات في نصوص قانونية"، وصولاً إلى انتخابات تشريعية في 17 ديسمبر/ كانون الأول المقبل "بناء على ما يريده الشعب"، حسب قوله.
تؤكد المعارضة أن كل قوانين وقرارات سعيّد ساقطة قانونياً ولا شرعية لها
ولكن المعارضة أيضاً تستعد وتؤكد أنّ كل قوانين وقرارات سعيّد ساقطة قانونياً ولا شرعية لها، وتدعو إلى عدم التعامل مع الحكومة وإلى مقاطعة هذه الاستشارة الإلكترونية التي تصفها بعملية تحايل على الشعب، وتجمع شتاتها من أحزاب ومبادرات، وتدعو لأن يكون يوم 14 يناير (ذكرى الثورة التونسية) موعداً لإسقاط الانقلاب.
في السياق، قال المدير العام الأسبق لمركز الدراسات الاستراتيجية، طارق الكحلاوي، إن "العام سيكون صعباً بقطع النظر عن الخيارات والعوامل السياسية".
وأوضح في حديث مع "العربي الجديد" أن "الوضعين الاقتصادي والاجتماعي هما اللذان سيفرضان واقعاً متوتراً بالضرورة". وبيّن أنه "بقطع النظر عن وفاق سياسي من عدمه، فإن الوضع الاقتصادي الذي يتميز بعجز واضح في الموارد، سيخلق وضعاً متوتراً والحقيقة الاقتصادية هي التي ستحدث فارقاً".
وأشار الكحلاوي إلى أن سعيّد "قرر أن يكون في قطيعة مع كامل النخبة السياسية، وحتى مع النخبة الاجتماعية كالمنظمات الوطنية (اتحاد الشغل ورجال الأعمال)، وهذا خلق أزمة، لأن المنظمات هي أيضاً قوى سياسية تاريخياً وواقعياً، واتحاد الشغل جزء من مشهد الحكم في البلاد، ولكنه أصبح مستبعداً".
وأضاف أن "الرئيس له خريطته ومشروعه الخاص المتمثّل في إجراء الاستفتاء على الدستور ثم إجراء الانتخابات، ويدفع لأن يصبح هذا أمراً واقعاً".
وتابع أن "القوى الدولية تقريباً توافق على الخطوط العريضة لهذه الخريطة، على الرغم من أن لها بعض الاحترازات، وإذا كان هناك ضغط فسيكون حول المسار المؤدي لتطبيق هذا المشروع والنظام السياسي الذي سيتم التصويت عليه".
وبخصوص تصاعد حراك المعارضة، تساءل الكحلاوي "ما هو وزنها الفعلي على مستوى الشارع؟ فالسقف المطروح من قبلها هو إزاحة قيس سعيّد، وكل ما استجد منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، ولكن كيف سيتم ذلك؟".
وقال إن "المسألة هي موازين قوى، وسعيّد بات أكثر تمكّناً منذ 25 يوليو، لأنه وجد مزاجاً شعبياً مسانداً، واستعان بمؤسسات الدولة، واليوم بصراحة ليست هناك تظاهرات عارمة في كل البلاد تطالب بعودة البرلمان".
يصرّ سعيّد على التعامل بنوع من التعالي مع اتحاد الشغل
ثقل الاتحاد التونسي للشغل
ورأى الكحلاوي أنه "يبقى السؤال الحقيقي، هل سينجح سعيّد هذا العام في إقامة سلم اجتماعي يسمح بتحقيق خريطة الطريق؟ وهنا سيكون للاتحاد التونسي للشغل ثقله الخاص، لأنه الطرف الاجتماعي الأساسي القادر على التعبئة، وهو الطرف القادر على فرض نفسه في موازين القوى".
وتابع "حتى الأطراف الدولية تشترط أن تحظى أي خطة إصلاحات باتفاق مع الأطراف الاجتماعية ومع اتحاد الشغل بالذات، ولكن سعيّد يصر إلى حد الآن على التعامل بنوع من التعالي مع الاتحاد".
ولفت الكحلاوي إلى أن "احتجاجات القصرين (غربي البلاد) ومنطقة عقارب بولاية صفاقس (جنوب شرق) الأخيرة، بيّنت أن الاتحاد يمكن أن يتحكّم في الشارع، فيرفع ويهدئ من وتيرة التحركات، وهو القادر سياسياً على أن يفرض توازناً".
وتابع "بينما القوى الأخرى، كحركة النهضة، تتراجع تكتيكياً إلى الوراء في المشهد في حالة حمائية، وتتعامل مع "مواطنون ضد الانقلاب"، بينما بعض الأطراف السياسية تأخذ مسافة من هذا المشهد، ولذلك برأيي ترتهن التطورات بموقف الاتحاد".
ويتقاطع تحليل الكحلاوي مع رأي عدد من الخبراء الاقتصاديين، ولا سيما بعد الموازنة التي أنجزتها حكومة الرئيس من دون استشارة الأطراف الاجتماعية الشريكة.
موازنة تونسية بلا رؤية
في هذا الإطار، رأى وزير التجارة السابق، الخبير المالي محسن حسن، أن قانون المالية لعام 2022 "لا يعكس أي رؤية سياسية أو اقتصادية للسلطة الحاكمة"، معتبراً أن النسخة التي جرى إقرارها "بلا روح".
وأضاف في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن قانون المالية "عادة ما يعكس الرؤية السياسية والاقتصادية للسلطة الحاكمة والمشروع الذي تتطلع إلى إرسائه، غير أن الأمر الآن مختلف".
وتابع المتحدث نفسه أن "أحكام قانون المالية، جاءت معارضة تماماً لما يصرح به الرئيس قيس سعيّد بشأن احتواء الفقر ومكافحة الفساد والمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين، فضلاً عن تعارض أحكام الموازنة مع الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي".
وأوضح أن "صندوق النقد يطالب بإصلاحات تحتاج إلى خفض الأجور وتقليص الإنفاق العام وتجميد التوظيف في القطاع الحكومي، غير أن قانون المالية تضمن زيادة في الإنفاق العام بنسبة تزيد عن 6,5 في المائة، إلى جانب الزيادة في الأجور، وهو ما يؤكد غياب الرؤية الإصلاحية لدى حكومة نجلاء بودن".
موازنة عام 2022 متعارضة تماماً مع ما جاء في خطابات سعيّد
كما رأى حسن أن "أحكام قانون المالية متعارضة تماماً مع ما جاء في خطابات الرئيس، من الحديث عن العدالة الجبائية وإعادة توزيع الثروة وتشجيع الاستثمار"، مؤكداً "افتقار القانون لأي تشجيعات للمستثمرين أو إجراءات لخلق الثروة".
ولفت كذلك إلى أن "قانون المالية يتعارض مع الموجة الطاغية في البلاد أو ما وصفه الرئيس بموجة الشعب يريد، بسبب البنود التي تزيد من الضغوط الجبائية على المواطنين، فضلاً عن الزيادات المرتقبة في الأسعار".
ورأى أن "تنفيذ قانون المالية يمكن أن يؤدي إلى أزمة اجتماعية في البلاد ناتجة عن الغلاء والفقر وعدم تشريك الاتحاد العام التونسي للشغل في صياغة أحكامه". ورجّح أن "يسرّع الانفلات المتوقع للتضخم، الذي سيبلغ 7 في المائة، في تحريك الشارع في الأشهر الأولى من السنة الجديدة".
ويبدو أن سعيّد نفسه استشعر خطورة تبعات هذه الموازنة، وقال لرئيسة حكومته، بودن، أخيراً، إنه وقّع قانون المالية "على الرغم مما تضمّنه من بعض الاختيارات التي لم تكن مقنعة ولم تسمح بتحقيق مطالب الشعب في العدالة الجبائية".
وجاءت الموازنة على الرغم من أن سعيّد كان أكد قبل ذلك بأيام أن "برنامج الإصلاحات المضمّنة في مشروع قانون المالية لسنة 2022 سيمكّن من تحقيق نمو اقتصادي شامل ومستدام، وتحسين مناخ الأعمال وإعادة الثقة مع شركاء تونس حتى تظلّ بلادنا وجهة جاذبة للاستثمار، بالإضافة إلى المحافظة على الدور الاجتماعي للدولة، وإرساء جباية عادلة لا تثقل كاهل المؤسسات والأفراد، وتحسين حوكمة القطاع العام، وتعزيز إجراءات مجابهة تداعيات الأزمة الصحية".
تونس تحتاج ضمانة الدول الكبرى لدى المانحين لفتح حنفيات التمويل المغلقة
ويبقى عامل الضغط الدولي مهماً في هذا السياق، لأن تونس تحتاج ضمانة الدول الكبرى لدى المانحين لفتح حنفيات التمويل المغلقة بقرار دولي.
ولذلك جاءت إشارة السفير الأميركي في تونس، دونالد بلوم، خلال لقائه بودن أخيراً، إلى "أهمية أن تؤمّن تونس من الآن فصاعداً عملية تشاور سياسي شفافة تشمل الجميع".
وأعرب بلوم، بحسب بيان صادر عن السفارة الأميركية في تونس مساء الأربعاء الماضي "عن دعم بلاده اعتماد إصلاحات اقتصادية من شأنها أن تدفع النمو الاقتصادي وتعزز خلق مواطن الشغل لعامة التونسيين".
وجدد السفير الأميركي دعم واشنطن "المتين للشراكة العريقة القائمة بين تونس والولايات المتحدة، ومساندتها القوية لتطلعات الشعب التونسي إلى أن ترعى شؤونه حكومة فعّالة، ديمقراطية، شفافة، تحمي الحقوق والحريات".
وفي الإطار ذاته، أكد وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو أخيراً "أن إيطاليا تتطلع باهتمام إلى بدء مسار إصلاحي وتحديد المواعيد السياسية الدستورية النهائية التي ينبغي أن تنتهي بإجراء انتخابات تشريعية جديدة".
وشدد دي مايو خلال لقائه سعيّد، ونظيره التونسي عثمان الجرندي، الثلاثاء الماضي، على "أهمية أن يستمر المسار الذي بدأ نحو إعادة إرساء سيادة القانون وعودة الحياة الديمقراطية إلى طبيعتها".
وأكد أنه "من المهم أن يتم ذلك من خلال حوار شامل وشفاف وجوهري مع جميع المكونات السياسية والاجتماعية في البلاد، بشكل يضمن الاحترام الكامل للحقوق الأساسية وتعزيز الاستقرار والنمو الاقتصادي".
وفيما يدعو الجميع إلى الحوار، يحاول سعيّد استنفاد كل فرصه قبل ذلك، عبر خلق أمر واقع يفرضه على الجميع، مستغلاً ساحة سياسية مشتتة، تحاول بعض أطرافها الاستفادة من الحرب التي يقودها الرئيس على حركة النهضة أساساً، على الرغم من أنه لا يعترف بكل المنظومة ويستهدف الجميع.