استمع إلى الملخص
- **التناقض بين العدالة الجنائية الدولية وسيادة الدولة:** تواجه المحاكم الدولية تحديات مثل اتفاقيات تسليم المجرمين والحصانات السيادية، مما يقلل من فعاليتها ويضر بمصداقيتها، حيث تمر انتهاكات الدول القوية دون عقاب.
- **التدخلات السياسية وتأثيرها على العدالة الدولية:** تتدخل الدول الكبرى لتحقيق مصالحها، مما يضعف سيادة القانون الدولي، كما في قضية فلسطين وإسرائيل، ويبرز التناقض بين العدالة الجنائية الدولية وسيادة الدولة.
عادةً ما تتذرع الدول المتمردة على القانون الدولي بعدم اختصاص المحاكم الدولية الإلزامي عليها، وبالتالي عدم قبول قرارتها، وعدم الامتثال لأمرها، ورفض أداء التزاماتها. كذلك عادةً ما تحجم محكمة العدل الدولية، أحياناً، عن إصدار قرارٍ من المرجح أنه سيكون غير فعّالٍ، وفي بعض الأحيان تستخدم تلطيفاً قانونياً لتجنبِ موقفٍ متفجرٍ، فهي لا تريد فقدان مصداقيتها عبر إصدار قراراتٍ لن تُنفذ. (التجارب النووية التي قامت بها فرنسا في البحار، وقضية الرهائن في إيران مثالاً).
كذلك؛ لا تُحترم الآراء الاستشارية المتعلقة بالقضايا الخلافية في أحيانٍ كثيرةٍ، كما حصل في قضية الصحراء الغربية (1974)، جدار الفصل العنصري/ العازل في فلسطين المحتلة (2004)، وأيضاً في إعلان استقلال كوسوفو من جانبٍ واحدٍ (2008).
هنا يبرز السؤال الإشكالي الدائم، المتعلق بإمكانية محاكمة الحكومات عن انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق الشعوب؟ هذه الفكرة تحمل في طياتها تفاؤلاً في إمكانية محاسبة القضاء الدولي لهذه الحكومات، عبر آليات القانون الدولي والمحاكم الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
هناك تناقضٌ بين العدالة الجنائية الدولية وسيادة الدولة، إذ يتطلب وجود الأولى تقليص نطاق الثانية
إذ أثبتت المحاكم الدولية قدرتها على محاسبة بعض القادة تاريخياً، كما في محاكم البلقان وكمبوديا، إضافةً إلى تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في قضايا تتعلق بالجرائم ضدّ الإنسانية في أفريقيا، التي أوحت بإمكانية استخدام القانون الدولي أداةً للضغط على الحكومات المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان، خاصّةً مع زيادة الوعي الدولي، والدعم الشعبي للقانون الدولي.
لكن هناك تحدياتٌ كبيرةٌ تعترض طريق العدالة الدولية، منها اتّفاقيات تسليم المجرمين، والواقعية السياسية الاقتصادية، والحصانات السيادية، مثل الحصانات الرئاسية والدبلوماسية، التي تعرقل مساءلة القادة. كذلك لم تصادق بلدان العالم كلّها على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ما يقلل من فعالية المحكمة في التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان عالميًا.
من ناحيةٍ عمليةٍ، لاحقت المحكمة الجنائية الدولية القادة الأفارقة، كما تبعت أهواء المعسكر الرأسمالي القانوني في ملاحقةٍ انتقائيةٍ سريعةٍ لفلاديمير بوتين ونيكولاس مادورو، كما أغفلت مجبرةً باقي الطغاة، خصوصاً حلفاء الدول العظمى والمعسكر الغربي نظراً لتعارض ملاحقة هؤلاء الطغاة مع مصالح الدول العظمى الاقتصادية والسياسية حالياً، وهو ما يضرّ بصورة المحكمة، ويثير تساؤلاتٍ حول العدالة الانتقائية، التي يفترض أن تقودها المحكمة على اعتبارها تملك سلطة إلزامٍ وتصرّفٍ. كذلك، غالباً ما تمرَ انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من قبل الدول القوية أو المحمية من دون عقابٍ، مثل انتهاكات أميركا والكيان الصهيوني وروسيا وإيران والصين وفرنسا...إلخ، ما يضعف من مصداقية العدالة الدولية وسيلةً فعالةً لتحقيق المساءلة.
في الوقت الذي يمثّل فيه كلٌّ من القانون الدولي والمحاكم الدولية أدواتٍ مهمَةً لتسوية الخلافات، ومحاسبة الحكومات، نجد العديد من التحديات والقيود التي تعيق فعاليتهما في تحقيق العدالة عملياً، والتي تشكك كذلك في مدى جدوى وجودهما الصوري الراهن على قمة العدالة الدولية، إِذ اقتصر عملهما حتّى الآن من الناحية العملية على توجيه الإدانات، وتوثيق الانتهاكات، وحفظ الأدلة فقط، من دون أن يملكا وسائل الإلزام، وإعادة السيادة/ السمو للقانون في تسوية النزاعات الدولية، وتحجيم استخدام القوّة والحروب كأدواتٍ سياسيةٍ، وكعاملين متحكمين بالقانون والسياسة الدولية.
تنازع القوانين والتفسيرات والعلاقة التبعية الثنائية بين القانون والسياسة
عادت مسألة رفض التعاون مع العدالة الدولية ومعرفة أبعادها القانونية والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، إلى الظهور على واجهة ساحة الصراع الدولي من جديدٍ، في الشأن القانوني الجنائي في العالم العربي، كما الدولي.
حسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، في الباب التاسع، حول التعاون الدولي والمساعدة القضائية، نجد في المادة (86): "تتعاون الدول الأطراف، وفقاً لأحكام هذا النظام الأساسي، تعاوناً تاماً مع المحكمة في ما تجريه في إطار اختصاص المحكمة من تحقيقاتٍ في الجرائم، والمقاضاة عليها".
في فبراير/شباط 2021 سمحت مدعية المحكمة العامة، فاتو بنسودا، بالمضي قدمًا في التحقيق مع إسرائيل، متجاهلةً الحجج البريطانية التي تضمنها دفعها/ طعنها
إنّ تأويل القوانين كي تصبَ في مصلحة الأطراف المعتدية، أو حلفائها ليست ظاهرةً جديدةً في تاريخ العلاقات الدولية بين الدول، أو بين الدول والمؤسسات والمحاكم ذات الاختصاص، إذ يعود ذلك إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، على أقلّ تقديرٍ، عندما رفضت هولندا تسليم الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني على سبيل المثال، وقد اعتبر رفض التسليم هذا أحد مظاهر سيادة الدولة.
إذ عبرت الولاية القضائية الوطنية في القضايا الجنائية عن السيادة الوطنية في القانون الدولي منذ نشأت الدول الوطنية القومية في منتصف القرن التاسع عشر. كذلك الأمر في ما يتعلق بالعدالة الجنائية الدولية، التي مثّلت أسلوباً يستخدم القانون لحلّ النزعات وتسويتها في أواسط القرن العشرين، بدلاً من القوّة والحرب، ومن أجل إحلال السلام والأمن الدوليين.
هذا الضابط القانوني الدولي مستوحى من وعي العالم بالجرائم الفظيعة التي شهدها القرن الماضي، إذ يسعى إلى مواجهة الشر من جذوره، من خلال تحميل الدولة وقادتها المسؤولية عن ارتكابه. لكن لم يعد بإمكان الأفراد المتورطين في جرائم دوليةٍ الاحتماء وراء كيانٍ اعتباريٍ خالٍ من المشاعر والمسؤولية، لذا تركز هذه العدالة في شقٍ منها على محاسبة الأفراد، وليس الدول، إذ لا تسمح المصالح الدولية بمساواة الدولة بالفرد في تحمل المسؤولية الجنائية، رغم أنّ الدولة مساحةٌ سلطويةٌ يحكمها أفرادٌ، لكن التبعات القانونية المعيارية تهتم بالشخوص أكثر من الكيانات، لإبعاد تشييء الدول والمصالح، وربطهما بالحامل المفاهيمي للكيان الوطني السياسي والاقتصادي، وإيجاد العلاقة السببية الأكثر قابليةً للتطبيق، تبعاً للصراعات بين الأفعال والنتائج في صورتها القيمية، مروراً بالسببية حول الأفراد من ذوي القيادات والمسؤولية، بناءً على مفهوم القانون الوضعي، وفلسفته المثالية في مفهوم القيم والوقائع.
رغم التقدم الكبير في القانون الدولي منذ اعتماد نظام روما الأساسي عام 1999، يبقى هناك تناقضٌ بين العدالة الجنائية الدولية وسيادة الدولة، إذ يتطلب وجود الأولى تقليص نطاق الثانية، إذ تقوم الاتّفاقات على التنازل عن جزءٍ من القانون السيادي الوطني لصالح معاهداتٍ تخلق تعايشًا ثنائيًا أو بين دولٍ عدّة، رغم أنّ السيطرة والهيمنة، في أغلب الأحوال، هما المحركان الأساسيان لهذه الاتّفاقيات، أيّ المعاملة بالإكراه والقسر لعقد الاتّفاقيات.
برزت قطبية التعارض بين الاثنين في المقاومة القوية التي أظهرتها الدول عند تأسيس المحكمة الجنائية الدولية وبدء عملها، إذ تُعدّ الولايات المتّحدة الأكثر عداءً لإنشائها، على الأقلّ بين باقي أعضاء مجلس الأمن الدائمين، روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، ويتضح هذا العداء من خلال حملة مناهضةٍ تقودها القوى العظمى، كرست فيها مفهوم "القانون يتبع السياسة"، بما يرفد مصالحها ويقوننها، ما جعل السيادة للأقوى سياسياً بدل من سيادة العدل.
الضابط القانوني الدولي المهشّم والنزاع التفسيري ونهج تدخل الأطراف الثالثة
في 20 مايو/أيّار 2024، قدّم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، طلباتٍ لإصدار أوامر اعتقالٍ في ما يخص الصراع الدائر في غزّة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بحقّ شخصياتٍ بارزةٍ، مثل بنيامين نتنياهو، يوآف غالانت، وقادة حماس يحيى السنوار، ومحمد الضيف، وإسماعيل هنية؛ قبل اغتياله في طهران، على ضوء ذلك كلّه برز التساؤل حول إمكانية مثولهم أمام المحكمة مستقبلاً؟ وحول التبعات القضائية الإجرائية الحالية واللاحقة لهذا الطلب؟
اختارت إسرائيل الطريق الأقصر، والأقرب للواقعية السياسية العالمية المهيمنة على القانون والسياسة، وهو تطبيق قانونها وعدالتها بيدها، كونها حليف الأقوى عالمياً، وليس الأعدل
كما شهدت الفترة الماضية عودة الاعتماد على مصطلح "amicus curiae"، أو "صديق المحكمة"، أو "طرفٍ ثالثٍ"، الذي يعني الشخص/ الكيان الذي يمكن أن تستمع إليه المحكمة من دون إجراءاتٍ رسميةٍ، من أجل الحصول على معلوماتٍ تخص عمل محكمة الجنايات الدولية، ومحكمة العدل الدولية، في هذه الحالة لا يعتبر "الطرف الثالث" شاهداً ولا خبيراً، ولا يخضع لقواعد التنحي، بل يشارك في قضيةٍ ما من أجل تقديم وجهة نظرٍ ترتبط ارتباطاً وظيفياً بمهمته المستقلة عن الأطراف المتنازعة، على سبيل المثال؛ وفي ما يخص معرفة شروط الاستخدام التفسيري، أو القاعدة العرفية غير المكتوبة، تكون تدخلاته (الطرف الثالث) القانونية والفقهية محددةً نحو اتجاهاتٍ قانونيةٍ أغفلتها الأطراف عن المحكمة، التأثير على استدلال المحكمة والمساهمة في إصدار حكمٍ معياريٍّ أقرب للعدالة القانونية والقضائية المعيارية.
أصدقاء المحكمة هي آليةٌ إجرائيةٌ تقوم من خلالها المحكمة بالدعوة، أو السماح لشخصٍ أو كيانٍ بالمشاركة في إجراءٍ قائمٍ بين الأطراف، من أجل تقديم معلوماتٍ قد تفيد منطقها.
استناداً لآلية "أصدقاء المحكمة" تقدمت المملكة المتّحدة بطلب الإذن لتقديم ملاحظاتٍ كتابيةٍ عملاً بالقاعدة 103 في 10/06/2024، تبعه إصدار محكمة الجنايات الدولية قراراً بقبول الطلب البريطاني في 22/07/2024، ثم تبعه في الآونة الأخيرة تخلي الحكومة البريطانية الجديدة عن استخدام هذه الآلية، وفقاً لصحيفة "الغارديان"، مع الإشارة إلى أنّ الطلب البريطاني ليس الوحيد في هذا الصدد، بل تبعه أكثر من 70 طلباً للتدخل كأطرافٍ صديقةٍ في صالح الدفع الذي يصب في مصلحة إسرائيل، وذلك بقيادة بريطانيا قبل أن تسحب طلبها، في مقابل تلك الطلبات، أودعت العديد من المنظمات والدول والمختصين ملاحظاتٍ لدحض التوجه البريطاني القضائي.
يتدخل أصدقاء المحكمة الآن بأسلوبٍ ارتجاليٍ ومنهجيٍ (مع احترام المبادئ المعمول بها عرفياً، والتي تؤطر هذه التدخلات كمبدأ عدم إلحاق الضرر وعدم تسييس القضايا) في الإجراءات التي تطرح قضايا قانونية واجتماعية مهمةٍ، مع نزعتهم إلى تدويل هذه القضايا لما لها من أهمّيةٍ فقهيةٍ تأسيسيةٍ قضائيةٍ.
فلسطين في المحاكم الدولية
في ما يتعلق بفلسطين نجد قضايا ذات صلةٍ أمام محكمَتي الجنايات والعدل الدوليتين، ودفوعاً قانونيةً ذات توجهٍ سياسيٍ - قانونيٍ يسعى إلى تكريس مبدأ "إنّ سيادة الدولة تقتضي محاكمة المتهمين على أراضيها"، استنادًا إلى ما تتضمنه نصوصٌ قانونيةٌ دوليةٌ وثنائيةٌ عدّة، من نصوص الاتّفاقات الثنائية بشأن الاختصاص القضائي الوطني، وتسليم المجرمين، التي فرضتها/ وتفرضها القوى المهيمنة على الدول، أو الكيانات الأخرى بقوّة الأمر الواقع، أو عبر الابتزاز الأمني والاقتصادي والسياسي.
في فبراير/شباط 2021 سمحت مدعية المحكمة العامة، فاتو بنسودا، بالمضي قدمًا في التحقيق مع إسرائيل، متجاهلةً الحجج البريطانية التي تضمنها دفعها/ طعنها، بأنّ اتّفاقات أوسلو تمنع الفلسطينيين تمامًا من تفويض المحكمة الجنائية الدولية بالولاية القضائية الجنائية على الإسرائيليين. فوفقًا لرأي بريطانيا الإشكالي قضت المحكمة في ذلك الوقت بهذا القرار رغم معرفتها بأنها ستُساءل مرّةً أخرى حوله، بغية اتخاذ قرارٍ نهائيٍ بشأن ادعاء إسرائيل بأن طلب السلطة الفلسطينية تحويل الاختصاص القضائي إلى المحكمة الجنائية الدولية ينتهك اتّفاقات أوسلو، عندما يطلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقالٍ ضدّ مواطنين إسرائيليين، لأن السلطات الفلسطينية لا تملك ولايةً قضائيةً على المواطنين الإسرائيليين، بموجب شروط اتّفاقيات أوسلو، التي من المفترض أن يسمو على الاختصاص القانوني المحلي، من مبدأ سمو القانون الدولي العام على القانون المحلي، واستناداً إلى القاعدة العرفية الملزمة باستنفاذ وسائل الإنصاف المحلية، وهي من قواعد القانون الدولي العرفي، كونها تلزم السلطة الفلسطينية وإسرائيل باللجوء إلى المحاكم الوطنية قبل اللجوء إلى المحاكم والاتّفاقيات الدولية.
إنّ قرار فاتو البراغماتي قد تجاهل، في تلك اللحظة، احتمال نشوء خلافٍ فقهيٍ حول الأساس القانوني لهذا القرار، من أجل المضي قدماً في التحقيق، والإسراع به، من دون إطالة أمد النقاشات والتفسيرات.
من بين الادعاءات الأخرى، التي تسوق لها الدول المتحالفة مع إسرائيل، اعتبار أنّ القضاء الإسرائيلي المستقل، ونظامها القانوني قادران على التحقيق في أيّ مخالفاتٍ جنائيةٍ خلال حرب غزّة المستمرّة، وأن المدعي العام لم يسمح لإسرائيل بوقتٍ كافٍ لممارسة هذه السلطة.
غالباً ما تمرَ انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من قبل الدول القوية أو المحمية من دون عقابٍ، مثل انتهاكات أميركا والكيان الصهيوني وروسيا وإيران والصين وفرنسا
في 19 يوليو 2024، قدمت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري في ما يتعلق بالعواقب القانونية الناشئة عن سياسات وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، لكن لم تبت بشأن الطلب الذي قدمته بريطانيا حول اختصاص محكمة الجنايات الدولية على المواطنين الإسرائيليين، وعلى جواز تحويل الاختصاص من فلسطين إلى محكمة الجنايات، رغم سحبها له، لكنها فتحت الباب أمام دولٍ وكياناتٍ أخرى لتتبنّى التوجه القانوني المعاكس.
سيأتي رأي محكمة العدل، حول شرعية طلب إصدار مذكرات التوقيف هذه، ضمن أكثر النتائج فعالية، كما هو منصوص عليه في المادة 36 (1)، ويشمل اختصاص المحكمة في القضايا التي تحيلها الأطراف إليها جميعها حول جميع المسائل المنصوص عليها بصفةٍ خاصّةٍ في ميثاق الأمم المتّحدة، أو في المعاهدات والاتّفاقيات السارية حيث يمنح الاختصاص، وسيقرر السؤال القانوني، الذي يحتاج إلى إجابة، قواعد القانون الواجب تطبيقها.
في الختام يتعيّن علينا أن ننظر إلى مبدأ القواعد الآمرة (Jus Cogens)، ومبدأ الإنصاف باعتبارهما ركيزتين أساسيتين تعكسان عمق وأهمّية العدالة الدولية، إضافةً إلى مبدأي التكامل والتعاون المستوحيين من روح نصوص المعاهدات الدولية، مثل اتّفاقية فيينا للمعاهدات، من أجل تعزيز دور القانون الدولي في حلّ النزاعات الدولية عبر المحاكم الدولية، لأن هذه القواعد تضمن أنّ أيّ قاعدةٍ قانونيةٍ لاحقةٍ تنشأ عن معاهدةٍ أو عرفٍ تتعارض معها تُبطل فوراً.
تؤدّي هذه المبادئ دورًا مكملًا في تحقيق العدالة عندما تفتقر النصوص القانونية العامة إلى الشمولية، أو تؤدي إلى نتائج غير عادلةٍ (تصحيح لما هو عادل من الناحية القانونية)، وهي أدواتٌ تُستخدم عندما يكون القانون القائم غير كافٍ لتحقيق العدالة الحقيقية في قضيةٍ معينةٍ، أيّ لمعالجة الظلم الذي قد ينجم عن تطبيقٍ صارمٍ للقانون، أو تفسيرٍ مواربٍ، وذلك من خلال اختيار سبل إنصافٍ تعالج الإجحاف.
أمام المجتمع الدولي، ستكون الدائرة التمهيدية لمحكمة الجنايات ملزمةً باتخاذ الطريق التفسيري للبتّ بالموضوع، والذي سيكون عرضةً للاستئناف أمام المحكمة ذاتها، أو إن طال الأمر ستلزم بتطبيق الرأي الاستشاري المنتظر صدوره عن محكمة العدل الدولية لاحقاً في موضوع النظر بطلبات مذكرات الاعتقال، بغية تكملة التحقيق في جرائم إسرائيل وتوقيف قادتها من أجل تطبيق العدالة الجنائية الدولية.
فيما اختارت إسرائيل الطريق الأقصر، والأقرب للواقعية السياسية العالمية المهيمنة على القانون والسياسة، وهو تطبيق قانونها وعدالتها بيدها، كونها حليف الأقوى عالمياً، وليس الأعدل، كما في اغتيالها إسماعيل هنية، متجاوزةً الإشكالية الأساسية للتعارض بين السيادة الدولية لإيران، وباقي الدول والسلطات في المنطقة والعالم، والاختصاص القضائي للعدالة الجنائية الدولية التوافقية والعرفية في حلّ النزاعات بغية إحلال السلم و الأمن الدوليين، متممةً بذلك ما دُعمت على أساسه منذ نشأتها من جرائم واحتلالٍ ومجازر تبرهن أنّ السيادة للأقوى، وليست لصاحب الحقّ.