لم يكن عدي التميمي الشهيد الأول، وليس الأخير، في الموجة الكفاحية الحالية. في الضفة الغربية، سقط الكثير من الشهداء، أمثال عبد الله الحصري وإبراهيم النابلسي وتامر الكيلاني وغيرهم، لكن تحول الشهيد عدي إلى أيقونة فلسطينية ونموذج ملهم، منذ تنفيذه عمليته الأولى، مساء 9 أكتوبر/تشرين الأول 2022، عند حاجز الاحتلال العسكري المقام على مدخل مخيم شعفاط في القدس المحتلة.
أبدى عدي في عمليته شجاعة كبيرة مقابل إرباك الجنود الإسرائيليين وخوفهم وهروبهم، إذ غادر عدي ساحة العملية مع مسدسه، بعد قتله مجندة وإصابته جنديين آخرين، ليبدأ مشوار نضالي أمني عسكري مثير ومعقد، أدى إلى إرباك منظومة الاحتلال الأمنية والعسكرية، فيما حصل على إعجاب وتقدير فلسطيني، جعلا منه رمزاً وطنياً كفاحياً مميزاً، بحكم نجاحه في تجاوز جميع مكونات منظومة المراقبة والرصد الاحتلالية، من أجهزة تتبع ومراقبة، وطائرات من دون طيار، واقتحامات عسكرية متكررة للمخيم بحثا عنه.
كل ذلك، أوجد ردة فعل واسعة في المخيم والمناطق المجاورة له، حين اشتبك آلاف المواطنين مع قوات الاحتلال المقتحمة دفاعاً عن عدي، وبغرض تضليل قوات الاحتلال ومنع اعتقاله.
بعد أن أصبح عدي حالة مميزة في المخيم، خصوصاً للجيل الفلسطيني الجديد، لم يتوان هذا الجيل عن التعبير عن دعم وحماية الشهيد عدي من الملاحقة الإسرائيلية بمختلف الوسائل الممكنة، بما في ذلك حلق رؤوس مئات الشبان في مخيم شعفاط ومناطق أخرى في مدينة القدس، بهدف تضليل قوات الاحتلال، وعدم تمكينهم من الوصول إليه، رغم علم الشبان الذين حلقوا رؤوسهم ثمن فعلتهم تلك، ملاحقةً واعتقالاً من قبل شرطة الاحتلال، أو طرداً من قبل المشغلين اليهود الذين يعملون في أماكن عملهم.
أعاد حلق الشبان رؤوسهم أحداث ثورة الشعب الفلسطيني عام 1936، حين أقدم الرجال الفلسطينيون على استبدال الطرابيش والطواقي بالكوفية والعقال الفلسطيني، من أجل تضليل سلطة الانتداب البريطاني، والحؤول دون اعتقالها الثوار الفلسطينيين، الذين كانوا يرتدون الكوفية، في حين ارتدت غالبية الشعب الفلسطيني الطرابيش والطواقي.
أتلفَ وأحرقَ سكان شعفاط والمناطق المحيطة الكاميرات المنصوبة على منازلهم ومحالهم التجارية بعد عملية شعفاط، من أجل منع المخابرات الإسرائيلية من مصادرتها ومعرفة محتواها، كي تساعدهم في الوصول إليه.
كذلك؛ أعلنَ سكان تلك المناطق العصيان المدني، ورفض آلاف العمال الذهاب إلى أماكن عملهم في المرافق الإسرائيلية، تعبيراً عن التضامن، وتأييداً لعدي أثناء مطاردته، ورفضاً للحصار الذي فُرضَ على شعفاط بغرض الضغط على المواطنين، ومعاقبتهم جماعياً بسبب عملية عدي التي أدت لمقتل المجندة الاحتلالية.
كشفَ تخفي الشهيد عدي مدة 11 يوماً عن امتلاكه قدرات أمنية قوية وشجاعة، وجرأة عالية، تخللها التفاف شعبي واسع، تجاوز حدود مخيم شعفاط ومنطقة القدس، حتى وصل إلى كل بيت فلسطيني.
ثم فاجأنا الشهيد عدي، مساء19 أكتوبر 2022، بعمليته الثانية على مدخل مستوطنة معاليه أدوميم، أصابَ فيها حارس أمن المستوطنة، قبل أن يسقط شهيداً، ممسكاً بمسدسه حتى آخر لحظة، رغم إطلاق وابل من الرصاص عليه من قبل رجال الأمن الإسرائيليين.
بعد ذلك، ارتفعت شعبية ورمزية الشهيد عدي، خصوصاً بعد نشر المخابرات الإسرائيلية فيديو عن عملية معاليه أدوميم، اعتقاداً منها أن نشره سيؤدي إلى طمأنة المجتمع اليهودي، الذي شعرَ بالخوف جراء بقاء الشهيد عدي طليقاً.
فور انتشار نبأ استشهاده، انطلقت مسيرات حاشدة في مختلف مدن وقرى ومخيمات الضفة حزناً على استشهاده، وفرحاً وتمجيداً للبطولة والجرأة اللتين أبداهما، واللتين أعادتا صورة الفدائي الشجاع المقدام إلى الوعي الفلسطيني.
ملأتَ صور الشهيد عدي الفضاء الفلسطيني، وسكنَ قلوب الشعب الفلسطيني، وأطلقَ اسم عدي على الكثير من المواليد الجدد. في غزة، أعلنت عائلة فلسطينية العفو عن المتسبب بوفاة ابنها، إكراماً للشهيد عدي، وتعبيراً عن التعطش لرؤية مثل هذه العملية، كي تعيد توحيد الشعب الفلسطيني، الذي يعاني نظامه السياسي من الانقسام المدمر.
كما عززت عملية عدي اليقين في قدرة الشعب الفلسطيني على مقاومة الاحتلال، وجعله يدفع أثماناً باهظةً، في حين أحرجت الواهمين والمشككين، الذين كانوا يقللون من قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة الاحتلال.
فتحَت العديد من بيوت العزاء للشهيد في معظم محافظات الوطن، وتسابق القادة الفلسطينيون على الاتصال مع والده، للثناء على بسالة وشجاعة استشهاد ابنه، بعد رفضه الاستسلام وتمسكه بمسدسه واستمراره في إطلاق النار حتى صعدت روحه إلى بارئها.
مثّل الموقف الفلسطيني العفوي الداعم لعدي، وما يمثّله من ثقافة مقاومة، استفتاءً فلسطينياً حول الكفاح المسلح ضد الاحتلال، بعد محاولات كثيرة لشيطنة وتشويه المقاومة والمقاومين في الوعي الفلسطيني.
كشفت هذه العمليات النوعية عن جيل فلسطيني جديد، ينتمي إليه الشهيد عدي التميمي ورفاقه، فقدَ الأمل بالحالة السياسية الحالية، خاصةً إفرازات اتفاقيات أوسلو، وتمردَ على الواقع السيئ، وأثبتَ قدرته على خلخلة وإرباك الأمن الإسرائيلي، وتنكيد حياة الإسرائيليين، ما دامت حياة الشعب الفلسطيني على هذه الحالة.
أثبتت الشهور الماضية أن هذا الجيل؛ وفق اعتراف كبار قادة الاحتلال، يتمتع بروح تضحية عالية، في الوقت الذي اعتقدت حكومات إسرائيل وأجهزتها الأمنية؛ في السنوات الماضية، أنها تمكنت من ترويض شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني، ومن إنتاج جيل فلسطيني جديد فارغ من أي محتوى وطني وكفاحي، مستعد للعيش تحت الاحتلال مثل العبيد، من دون حصوله على حقوقه.
هذا الجيل فاجأهم وانفجر في وجه الجميع، موضحاً فشل مشاريع الترويض والحلول الاقتصادية والأمنية، أو ما يسمى إدارة وتقليص الصراع.
تسابق رئيس حكومة إسرائيل الانتقالية؛ يئير لبيد، ومفتش عام الشرطة للإعلان عن قتل الشهيد عدي التميمي، اعتقاداً منهما أن قتله سيهدئ المجتمع الإسرائيلي؛ ويجعل مرحلة ما بعد رحيله أفضل للمجتمع اليهودي، يكشف ذلك عن هشاشة هذه الدولة النووية، التي تخشى شاباً لم يتجاوز 22 من عمره.
باتت أجهزة الاحتلال الأمنية تخشى من أن تصبح مرحلة ما بعد عدي التميمي أصعب وأسوأ بكثير، خاصة بعد أن تحول الشهيد عدي إلى حالة رمزية ملهمة للأجيال الفلسطينية، أي أن الكثيرين سيحاولون تطبيق وتقليد تجربة ونموذج عدي.
لم تتأخر مرحلة ما بعد عدي كثيراً، إذ طعنَ الفتى محمد أبو قطيش (16 عاماً)، مستوطناً إسرائيلياً في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، وأصابه إصاباتٍ خطيرةٍ قبل إطلاق جنود الاحتلال النار عليه، أخبر الفتى أبو قطيش المحققين اليهود أنه نفذ عمليته رداً على استشهاد عدي.
كذلك، ارتدى آلاف الفتية والشبان الفلسطينيين ملابس عليها صورة الشهيد عدي، وحلق آخرون رؤوسهم تقليداً لصلعته، ما يؤشر على أن الكثيرين سيحاولون تقليده مستقبلاً، الأمر الذي يمثل كابوساً للاحتلال ومستوطنيه حتى بعد استشهاده.
لم تهدأ الضفة منذ استشهاد عدي، بل هناك تطورات مهمة، تتمثل في اتساع رقعة الاشتباكات والعمليات، وما رافقها من تطور في الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي، الذي وصل إلى حد تمجيد وزيرة الصحة الفلسطينية؛ الدكتورة مي كيلة، مجموعات عرين الأسود في نابلس، ما آثار ردود فعل واسعة في الأوساط السياسية والأمنية العسكرية الإسرائيلية.
كما صدر موقف عن المتحدث باسم القيادة الفلسطينية، حيا فيه مدينة نابلس والذين يدافعون عنها ويقاومون جرائم الاحتلال فيها، ما فهم أنه اشارة إلى مجموعات عرين الأسود، المكونة من أفراد ينتمون لكل الفصائل الوطنية الفلسطينية، وضمت أشخاصاً غير منتسبين إلى أي حزب سياسي.
إن تشكل "عرين الأسود" في نابلس و"كتيبة جنين"، وغيرهما من التشكيلات، ناتج عن غياب العمل الفصائلي المنظم، وبسبب الواقع الأمني الفلسطيني المعقد، الذي حصل بعد نهاية الانتفاضة الثانية، ونتيجة الانقسام الفلسطيني عام 2007، كذلك أدت الاقتحامات الإسرائيلية المتكررة للمدن الفلسطينية إلى زيادة إحراج وإضعاف السلطة والقيادة الفلسطينيتين أمام الشعب الفلسطيني، ما أدى إلى هذا التغيير في الموقف الفلسطيني الرسمي واللافت جداً.
مشاركة عناصر من أجهزة الأمن الفلسطيني في العمليات، آخرها الكشف عن الوحدة الخاصة الإسرائيلية التي اقتحمت مدينة نابلس قبل أيام، والاشتباك معها، فضلاً عن مشاركة ضباط وعناصر أمن فلسطينيين آخرين في عمليات سابقة في نابلس وجنين، يعد التطور الأبرز والأهم.
يمثل هذا التطور فشلاً كبيراً لمشروع الجنرال كيث دايتون، الذي عمل على هندسة مؤسسة أمنية فلسطينية لا ترى الاحتلال الإسرائيلي عدواً، وحصر عملها في مواجهة الجريمة الداخلية، والأعمال الجنائية، والإرهاب الذي يقصد منه معارضي السلطة السياسيين، والذين ينفذون عمليات ضد إسرائيل.
تعتبر مشاركة أفراد من الأجهزة الأمنية في العمليات الحالية ضربة قوية للمشروع الأميركي- الإسرائيلي، الذي جعل دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية الوظيفي في خدمة إسرائيل، بدلاً من خدمة الشعب الفلسطيني والدفاع عنه.
من دون شك، إن عدم قدرة السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية على حماية الشعب الفلسطيني، والتحريض الإسرائيلي، وتحميل السلطة مسؤولية ما يحدث من جهة أولى، وأداء عديد المقاومين البطولي المميز، أمثال عدي التميمي ورفاقه الكثيرين، والالتفاف الشعبي الواضح حول ثقافة المقاومة والكفاح من جهة ثانية، أحدثت تغييراً في الكثير من الأمور، منها اقتراب الخطاب الرسمي الفلسطيني من إرادة وخيار الشعب الفلسطيني، خاصة أن عمليات الشهيد عدي التميمي ورفاقه حدثت في الأراضي المحتلة عام 1967، التي يجيزها القانون الدولي، كما عبرت عنه تصريحات صدرت عن أكثر من مسؤول فلسطيني يدعم المقاومة.
تغطية الإعلام الرسمي الفلسطيني الوطنية تنسجم مع رغبات وتطلعات الشعب الفلسطيني، على عكس الكثير من الأحداث السابقة، وانضمام عناصر أمنية فلسطينية إلى تشكيلات ومجموعات المقاومة الفلسطينية يعطي زخماً جديداً لموجة الانتفاضة الحالية ضد الاحتلال وجرائمه.
الأمر الذي يضع حكومة إسرائيل أمام خيارات مربكة، إما استخدام المزيد من القوة والبطش والقتل والعقوبات الجماعية، ما سيؤدي إلى مزيد من ردود الفعل الفلسطينية، وانضمام فئات فلسطينية جديدة إلى عمليات المقاومة، الذي يمثل نهاية مدوية لمشروع الحلول الاقتصادية والأمنية الإسرائيلية للقضية الفلسطينية، أو التراجع الإسرائيلي وعدم مواجهة هذه الموجة خوفاً من اتساعها، الذي يعني نهاية ما تبقى من قوة الردع الإسرائيلي، الذي يعني أن مرحلة جديدة بدأت في التكون.