يعود هذه الأيام سباق التسلح الغربي بقوة إلى المنطقة القطبية الشمالية. ويحاول الغربيون، تحت سقف الولايات المتحدة، اللحاق بالاندفاع الروسي المتواصل منذ 2014 في قواعد عسكرية مهمة وحيوية في تلك المنطقة الجغرافية، مع طموح صيني لفرض تواجد فيها.
وغير بعيد عن طموح "مجموعة دول الشمال"، بمن فيهم السويديون والفنلنديون الذين هم على وشك الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يخصص الأميركيون نحو 4 مليارات دولار لإعادة تأهيل قاعدتهم الضخمة في جزيرة غرينلاند.
وبحسب ما تذكر مصادر صحافية دنماركية (حيث تتبع غرينلاند لسيادة كوبنهاغن) فإن الحديث يدور عن العودة إلى توسعة وتفعيل قاعدة "ثولا" الضخمة، أو ثول "Thule"، كما يسميها الأميركيون، التي بنوها في خمسينيات القرن الماضي، لتكون إحدى أهم قواعد التصدي للصواريخ العابرة للقارات.
تكتسي قاعدة "ثولا" أهمية لأميركا لمنافسة روسيا والصين على النفوذ في القطب الشمالي
وتخصيص المليارات لإعادة تأهيل القاعدة العسكرية يأتي بعد أن أدى الاحتباس الحراري، وفقاً لخبراء التغيرات المناخية، إلى ذوبان كبير للجليد، وحدوث تشققات في مدرجات مطارها، ومقراتها التي بقيت منذ انتهاء الحرب الباردة في 1992 في عهدة واشنطن.
ورغم ما تسببت فيه قاعدة "ثولا" من احتجاجات للسكان الأصليين (من شعب الأسكيمو) وشعب الدنمارك، بسبب احتوائها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي على أسلحة نووية، فإن الأصوات المعارضة لتأهيل القاعدة تبدو خافتة في كوبنهاغن ونوك (عاصمة غرينلاند)، وذلك على عكس ما تسببت به تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 2019، عن الرغبة بشراء جزيرة غرينلاند. ويبدو أن الخطط الأميركية لتأهيل القاعدة تأتي في سياق جهود حلف الأطلسي لتجسير الهوة بينه وبين روسيا، التي تنشط بشكل متزايد في عموم الدائرة والمنطقة القطبية.
تسويق أوروبي لسباق التسلح
ويبدو أن التطورات التي أعقبت غزو روسيا لأوكرانيا، والاندفاع الجدي نحو رفع موازنات الدفاع والأمن، باتت تساعد الطبقات السياسية الأوروبية الحاكمة على تسويق سباق التسلح الذي كان قائماً قبل انتهاء الحرب الباردة، والدخول في تعاون عسكري مع واشنطن بشكل لم يكن متاحاً حتى في ذروتها.
وذلك ينطبق على تنامي الوجود العسكري الأميركي بصورة علنية في النرويج (بالأخص في أقصى الشمال)، ومثله التعاون مع دول كفنلندا والسويد والدنمارك، إذ باتت العمليات اللوجستية العسكرية تتخذ من الأخيرة محطة هامة باتجاه البلطيق وبحر الشمال.
وتعتبر الأوساط المتابعة للأنشطة العسكرية المتزايدة في المنطقة القطبية الشمالية أن تغير الطبيعة الجليدية، والانحسار الملحوظ في البحر المتجمد الشمالي، يدفع روسيا نحو تجديد وتوسعة قواعدها العسكرية من الحقبة السوفييتية، وبأنشطة تتخذ طابعاً علنياً وسرياً لفرض تواجد وسباق "سيادة" على مناطق بالغة الأهمية في استراتيجيات الحلف الأطلسي الدفاعية.
فعلى سبيل المثال عدت غرينلاند في العقيدة العسكرية الأطلسية (وبشكل خاص لدى البنتاغون) "جدار صد" دفاعي بوجه الصواريخ البالستية بعيدة المدى، بعد أن أصبح شبح الحرب الباردة، وعودة الستار الحديدي، ماثلين في علاقة الجانبين.
تنافس مع الصين وروسيا
لم تتخل واشنطن تماماً عن قاعدة "ثولا"، وأصبحت اليوم تكتسي أهمية في منافسة روسيا والصين على النفوذ في القطب الشمالي. فبكين توجّهت مبكراً، بعد الانحسارات الجليدية بسبب ظاهرة الاحترار العالمي، للمنافسة على النفوذ في المنطقة، وقامت بتجارب لاستخدام الطرق البحرية تلك، كمسار لسلاسل التوريدات نحو أوروبا.
وبدأت كوبنهاغن والغرب عموماً ينتبهون إلى محاولة الصين ترسيخ نفوذها في غرينلاند، من زاوية وعود بالاستثمارات المالية الضخمة (كما تفعل في أفريقيا)، وتعهدات ببناء مطارات حديثة وكبيرة فوقها، ما دفع الدنمارك إلى استخدام الفيتو، باعتبارها مسؤولة عن السياسات الدفاعية والخارجية، لمنع سلطة الحكم الذاتي في الجزيرة توقيع اتفاقيات مع بكين.
إذا، دخول أميركا على خط قطع الطريق على هيمنة روسيا والصين في المنطقة القطبية يعيد بطريقة أو أخرى هذه البقعة إلى حالة صراع، من بين مناطق صراع عدة بين الأطراف. وبناء على رؤية واشنطن، ومعها بعض الحلفاء الأوروبيين، باعتبار موسكو تشكل تهديداً عسكرياً، يجلب بكين (بتحالف مصالح مع موسكو) إلى مواجهة مصالح الغرب فيها.
صحيح أن التنافس يتخذ طابعاً عسكرياً، بيد أن المنطقة التي توسع روسيا وجودها فيها، غنية بالنفط والغاز والموارد الأخرى، بعد أن بات ممكناً الوصول إليها في باطن الأرض بفعل تراجع تجمدها الشديد على مدار السنة والمواد الخام، الكثيرة في غرينلاند.
تخطط واشنطن لاستعادة القاعدة الغرينلاندية لمكانتها السابقة، كقاعدة تحذير وتصدٍ للصواريخ العابرة
وزيادة واشنطن استثماراتها فيها يهدف من بين أشياء أخرى إلى كسر احتكار بكين وموسكو، إلى حد كبير، لبعض تلك المواد الخام الهامة. وفتحت واشنطن قنصلية في عاصمة الجزيرة نوك، من أجل إظهار اهتمام متزايد بسرعة تأمين الوصول إلى عدد كبير من المواد الخام النادرة والهامة لصناعاتها، المُهددة من الصين بصورة رئيسية.
استعادة روسيا نشاطها العسكري
من جهة ثانية، فإن الجانب الروسي، خلال عقدي حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استعاد نشاط جيشه على طول الساحل الشمالي الطويل للمتجمد الشمالي، من خلال كاسحات الجليد العاملة بالطاقة النووية وسفن وغواصات حديثة، واستغلال ذلك في فتح طرق الإبحار الجديدة بين آسيا وأوروبا، وهو نشاط زاد في غضون بضع سنوات بعد أن بات ساحلها خالياً من الجليد.
إجمالاً، فإن مساعي تكثيف العودة الأميركية الآن إلى هذه المنطقة الحيوية للغرب يشير أيضاً إلى أن واشنطن تخلّفت عن موسكو في القطب الشمالي، بعد أن ظلت لعقدين ماضيين تركز جهودها الأمنية والعسكرية على ما يسمى "محاربة الإرهاب"، ما جعل انتشارها في المناطق الشمالية الباردة محدوداً، يستثنى منها منطقة ولاية ألاسكا، المحسوبة على الجغرافية القطبية.
وفي السنوات الأخيرة فقط، بدأ الجيش الأميركي يأخذ بنصائح الخبراء عن ضرورة امتلاكه كاسحات جليد وسفن إبحار في مياه عميقة، وقاعدة "ثولا" تضم ميناء عميقاً، إذ يعتبره العسكريون الأميركيون حلاً مثالياً لإظهار القدرات الدفاعية.
وتخطط واشنطن من خلال تبني تخصيص المليارات الأخيرة، إلى زيادة الإنفاق خلال السنوات الـ12 المقبلة لاستعادة القاعدة الغرينلاندية لمكانتها السابقة، كقاعدة تحذير وتصدٍ للصواريخ العابرة، سواء نحو أوروبا (كغيرها من القواعد) أو نحو الأراضي الأميركية الشمالية.
وفي نهاية المطاف يفتح انخراط حلف الأطلسي والأميركيين بجعل "ثولا" قاعدة مهمة للقاذفات الاستراتيجية بعيدة المدى، بتوسيع المدارج وإصلاحها، الأبواب مجدداً لصراع قديم - جديد بين "الأطلسي" وكل من روسيا والصين.
ففي أغسطس/آب الماضي، بدأ الحلف الغربي يغير في تركيزه على مناطق الصراع. واعترف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبيرغ علناً بأن القطب الشمالي بات "كعب أخيل" لحلف الناتو، وأنه يجب ألا يكون نقطة ضعف الحلف في ما يسميه "العدوانية الروسية".
وبالفعل زادت الدنمارك من تركيزها على القطب الشمالي، وباتت تخصص ميزانية عسكرية خاصة بالمنطقة، والدفع بالمزيد من العسكرة والطائرات الحربية والطائرات بدون طيار لتحسين مراقبة شاملة، مع تحديثات هامة في منظومات الرادارات المقامة فوق جزر "الفارو" جنوب جزيرة غرينلاند.