اعتبرت مصادر قضائية ودبلوماسية مصرية مطّلعة على مجريات التحقيق والتعاون القضائي في ملف مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي اختفى في مصرفي 25 يناير/كانون الثاني 2016 ووُجدت جثته في 3 فبراير/شباط من العام عينه، أن البيان المشترك الصادر مساء أول من أمس الاثنين، عن النيابة العامة المصرية ونظيرتها الإيطالية، كان متناقضاً. وعزت ذلك إلى عدم إحراز أي تقدم أو اتفاق على نتائج التحقيق، بسبب تهديد روما بإصدار بيان من طرف واحد، يتضمن فقط الإعلان عن تحريك الدعوى الجنائية الغيابية بحق الضباط المصريين الخمسة المشتبه في ضلوعهم بتعقب واختطاف وتعذيب وقتل ريجيني، وهم اللواء طارق صابر، والعقيد آسر كمال، والعقيد هشام حلمي، والمقدم مجدي عبد العال شريف، وأمين الشرطة محمود نجم. وأشارت مصادر مطّلعة بحديثها لـ"العربي الجديد" إلى أن القاهرة، وعبر وزارة الخارجية والنيابة العامة، وجدت أنه من الضروري المشاركة في إصدار البيان، حفظاً لماء الوجه، على الرغم من أنه لم يكن من المخطط سلفاً اتخاذها هي أيضاً خطوة إغلاق التحقيقات. وأضافت أن القاهرة لا تريد الظهور بمظهر الطرف الرافض للتعاون أو المتستر على الجريمة، وبالتالي لم يكن هناك بد من تقديم رواية مصرية أخرى ترتكز على ثلاثة أسس.
لم تقتنع روما برواية العصابة التي قدمتها مصر
أول هذه الأسس، عبارة عن رفض النتائج التي توصلت إليها التحقيقات الإيطالية، المبنية على التحقيقات التي أجرتها النيابة المصرية والمقابلات المنفردة التي أجرتها نيابة روما، بحجة أنه لا توجد أدلة كافية على توجيه الاتهام للضباط الخمسة. وبالتالي عدم موافقة مصر على كشف هويتهم وتقديمهم للمحاكمة سواء في القاهرة أو روما. وثاني الأسس، العودة مرة أخرى إلى سيناريو ضلوع عصابة السرقة بالإكراه، المكونة من أربعة أشخاص، لقوا حتفهم برصاص الشرطة في مارس/آذار 2016. وأعلنت وزارة الداخلية المصرية في حينه، أن أفراد العصابة اختطفوا ريجيني وسرقوا متعلقاته، التي وُجدت في منزل أحد أفراد العصابة. ثم ادعت النيابة العامة أنها أصدرت قرار ضبط وإحضار لهؤلاء اللصوص بحجة وجود أدلة على اختطافهم ريجيني وقتله، وذلك بعد أقل من شهر ونصف الشهر من اكتشاف جثته. ولم تقتنع روما بهذه الرواية ولا بسجل الفحص الجنائي الذي قدمته الشرطة المصرية عن أفراد العصابة، والذي يتضمن سرقة واختطاف عدد من المواطنين والسائحين الأجانب، ومنهم إيطالي يدعى ديفيد سرقت منه العصابة مبلغ 10 آلاف دولار، وهي الحالة التي أشارت إليها النيابة في البيان المشترك الأخير. وفي سبتمبر/أيلول 2016، أي بعد سبعة أشهر تقريباً من واقعة قتل ريجيني، سلّمت النيابة العامة المصرية بالأمر الواقع وأقرّ النائب العام السابق المستشار نبيل صادق، بأنه لا توجد أدلة ولا روابط قوية ولا واضحة على ضلوع العصابة في قتل ريجيني. وصدر بيان مصري ـ إيطالي مشترك بعد زيارة صادق مقرّ النيابة الإيطالية في روما. وخلال تلك الزيارة، برزت معلومات مفادها أن رئيس النقابة المستقلة للباعة الجائلين، محمد عبدالله، أبلغ شرطة القاهرة في 7 يناير/كانون الثاني 2016 "معلومات خاصة" بالطالب الإيطالي. وبناءً عليه، أجرت الشرطة تحرياتها حول أنشطة ريجيني، التي استمرت لثلاثة أيام، وتبيّن أنها "ليست محل اهتمام الأمن القومي"، وتبعاً لذلك توقفت التحريات.
ومنذ ذلك الحين ماطلت النيابة المصرية في تسليم روما أية معلومات عن مجريات التحقيق في قضية العصابة، على الرغم من القبض على ذوي أفراد العصابة وإخضاعهم لتحقيقات قاسية على مدار أسابيع، ومُنع النشر الصحافي في القضية برمتها. واعتبرت نيابة روما الأمر "شأناً داخلياً لا صلة له بالواقعة الأصلية، لانطوائه على محاولة فجة لتضليل العدالة والتستر على الجناة الحقيقيين باستغلال دماء أشخاص أبرياء، حتى لو كانوا من المسجلين جنائياً ومعتادي الإجرام". وأوضحت المصادر أن عودة النيابة العامة للحديث عن العصابة من دون توضيح الروابط بين صاحب قرار قتل العصابة وقتلة ريجيني، هي نتيجة حاجتها بشكل عاجل لتضمين البيان المشترك رواية مضادة للرواية الإيطالية، على الرغم من أن البيان نفسه أكد أن الفاعل الأصلي لجريمة القتل مجهول، مما يضرب مصداقية الرواية كلها في مقتل. أما الأساس الثالث للرواية المصرية، فهو التشكيك في مصداقية المحاكمة الإيطالية الغيابية، المقررة أن تبدأ يوم الجمعة المقبل للضباط الخمسة، بحجة أن الأدلة عليها ضعيفة. وتخشى مصر من أن يستخدم الإيطاليون أي حكم إدانة غيابي قد يصدر ضد الضباط الخمسة، كبداية لحراك قضائي جديد ضد وزارة الداخلية المصرية ككيان أو الوزير بصفته، وهو ما دفع المصريين للتأكيد على أنه لا توجد أدلة قوية، بينما كان الإيطاليون على درجة كافية من الدقة لتوجيههم الاتهام للضباط بتعقب واختطاف وإيذاء ريجيني، من دون ذكر اتهامهم بالقتل صراحة. وأكدت إيطاليا خلال اجتماع يوم الاثنين، الذي عُقد عن بعد بين النيابتين، أن قضاة التحقيق في إيطاليا، وهم سلطة توجيه الاتهام المنفصلة عن النيابة العامة المختصة بالتحقيق، سوف يبدأون فحص مذكرة الاشتباه الخاصة بالضباط الخمسة يوم الجمعة المقبل. وتؤكد هذه المعطيات ما سبق أن نشرته "العربي الجديد" في 30 أكتوبر/تشرين الأول و25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضيين، حول عدم امتلاك روما أي معلومات شخصية عن الضباط الخمسة المشتبه فيهم، عدا لائحة أسماء غير كاملة ووظائف بعضها قديمة. بالتالي، فإنه من المحتمل توجيه مذكرة الادعاء وطلب المثول أمام المحكمة إلى السفارة المصرية في روما أو القنصلية، باعتبارها القائمة على المصالح المصرية في إيطاليا، وفقاً للاتفاقات الدبلوماسية بين البلدين والقانون الدولي الجنائي، في ظل عدم وجود اتفاقية تعاون قضائي تنظم مثل هذه الحالة بين البلدين. وعلى الرغم من أن تحريك الدعوى غيابياً ضد الضباط الخمسة لن يؤدي إلى محاسبتهم مباشرة إذا أصرّت مصر على عدم تسليمهم، إلا أن هذه الخطوة ستوفر غطاءً قانونياً لرغبة روما في إدراج أسماء الخمسة على لائحة الإنتربول والتضييق على تحركاتهم. وسيمثل الحكم ضدهم أيضاً وثيقة إدانة قضائية لأجهزة النظام المصري الاستخباراتية والأمنية. وكذلك سيدين الحكم القضاء المصري، الذي أدى دور المتستر على مجموعة من الجرائم، بدءاً من تعذيب ريجيني وقتله، ثم قتل مجموعة من الأشخاص والإدّعاء بأنهم عصابة سرقة خطفت ريجيني وسرقت متعلقاته، ثم اتهام ريجيني نفسه بالتخابر، وانتهاء بتضليل التحقيق وإخفاء بيانات الضباط المشتبه فيهم. وفي تفاصيل احتمال توّرط بعض الضباط، فإن اللواء طارق صابر، كان خلال الواقعة مدير قطاع في جهاز الأمن الوطني. وهو الذي أصدر تعليماته بمتابعة ريجيني، بناء على تقرير رُفع إليه من أحد مساعديه عن أنشطته البحثية وتواصله مع نقيب الباعة الجائلين، بمناسبة بحثه عن النقابات المستقلة في مصر. أمّا العقيد آسر كمال، فكان رئيساً لمباحث المرافق بالعاصمة، وبرزت دلائل على إشرافه على رسم خطة تعقّب ريجيني في إطار التنسيق بين الأمن الوطني والأمن العام، وقد تمّ نقله بعد الحادث بأشهر عدة للعمل بمحافظة أخرى. أما المقدم مجدي شريف، فقد سبق للنيابة العامة في روما، أن نشرت اسماً رباعياً تقريبياً له هو "مجدي إبراهيم عبد العال شريف". وبرز دور شريف بعد أن كشف ضابط أفريقي، أنه سمع منه حديثاً عفوياً أثناء تدريب للضباط الأفارقة في كينيا عام 2017، اعترف فيه بتورطه في قتل ريجيني، أو "الشاب الإيطالي" كما وصفه، إلى حد القول بأنه "لكمه مرات عدة" بسبب "الاشتباه في كونه جاسوساً بريطانياً". وذكرت التحقيقات الإيطالية أن شريف شارك ثلاثة ضباط آخرين، غير الخمسة المشتبه فيهم، في إدارة ملف ريجيني، وأنهم جميعا قاموا بتكوين شبكة من المخبرين حول ريجيني، تضم، زميلته المقرّبة الباحثة نورا وهبي، وشريكه في السكن محمد السيد الصياد ونقيب الباعة الجائلين. مع العلم أن مصادر مصرية اعتبرت أن تحريك الدعوى الغيابية كان من الحلول التي بحثتها نيابة روما، بعد البداية المتعثرة لمرحلة التعاون القضائي الجديدة بين البلدين في عهد النائب العام الحالي حمادة الصاوي، التي صدر فيها تقرير بما انتهت إليه التحقيقات السابقة على مدار أربع سنوات ونصف السنة، وتوجيه الاتهام لأجهزة الأمن المصري بشكل عام بارتكاب جريمة تعذيب ضد الإنسانية. ورأت أن في خطوة إيطاليا، محاولة لإخضاع الحالة المصرية مع ريجيني للقوانين الإيطالية، التي تنصّ على حظر توريد الأسلحة، وكذلك وقف العلاقات التجارية مع الدول التي تتحمل حكوماتها مسؤولية حصول مخالفات جسيمة للاتفاقيات الدولية المنظمة لحقوق الإنسان. ويأتي هذا الوضع بعد خطوات اتخذتها بعض القيادات الحزبية اليسارية في إيطاليا للتنسيق مع نيابة روما في هذه المسألة، لكنها لم تتبلور حتى الآن في مشروع قرار برلماني. ومن المحتمل أن تبدأ النيابة العامة الإيطالية في هذا التحرك على مراحل، حتى لا تخاطر بالدفع في اتجاه عرض قرار "اعتبار مصر دولة خارجة عن اتفاقيات حقوق الإنسان" على البرلمان الإيطالي، من دون ضمان وجود أغلبية نيابية تدعم ذلك التحرك. وتمّ الأخذ في الاعتبار عجز اليسار والنواب المتعاطفين مع قضية ريجيني، ووالديه النشطين إعلامياً، عن تحريك القضية، وعدم التأثير بأي صورة على السياسة التي ينتهجها رئيس الوزراء جوزيبي كونتي، والقائمة على المضي قدماً في استغلال القضية لعقد المزيد من الصفقات لصالح الشركات الإيطالية الكبرى.
تضاعفت قيمة مشتريات مصر من الشركات الإيطالية
ومن هذه الصفقات، منح مصر تمويلاً رسمياً للصفقات من خلال الشركة الإيطالية الحكومية "ساسي"، التي تُعتبر قناة الاتصال الحكومية بين وزارة الدفاع المصرية والمصارف الأوروبية والإيطالية المقرضة لها، لضمان إنجاح الصفقات وسرعة تنفيذها. وسبق لـ"العربي الجديد" أن نشرت في 9 نوفمبر الماضي وثيقة كشفت فيها أن قيمة مشتريات مصر من الشركات الإيطالية لتصنيع الأسلحة والذخائر وقطع الغيار والبرمجيات العسكرية لعام 2019، تضاعفت ثلاث مرات عن قيمة المشتريات في عام 2018. وباتت العليا في تاريخ العلاقات بين البلدين، بواقع نفقات بلغت 238.055.472 مليون يورو، في مقابل 69.1 مليون يورو تقريباً في عام 2018. وتنوّعت المشتريات بين أسلحة جديدة بقيمة تجاوزت الـ97 مليون يورو، وقطع غيار للمعدات وبرمجيات وإضافات بقيمة 141 مليون يورو. وأوضحت الوثيقة أن مصر جاءت في المركز الرابع عالمياً بين مستوردي الأسلحة الإيطالية، خلف الكويت وقطر وألمانيا. وتعددت مشتريات القاهرة من مجموعة من أكبر شركات التصنيع الإيطالية، على رأسها شركة "فينكانتييري"، التي اتفقت معها على تسليم فرقاطتي "فريم برغاميني"، ستصل إحداهما قريباً إلى مصر، حاملة اسم "الجلالة". كما عقدت مصر اتفاقاً مع شركة "ليوناردو" لشراء 24 طائرة تدريب من طراز "أم 346" بقيمة إجمالية تتراوح بين 370 و400 مليون يورو. وهي الشركة نفسها التي ستبيع 32 طائرة مروحية من طراز "أغوستاويستلاند 149"، والتي لم تحصل عليها مصر حتى الآن، رغم أنها قدمت الطلب في إبريل/نيسان الماضي. كما تشتري القاهرة من شركات "بينييللي" و"إليترونيكا" و"بيريتا" و"سيميل ديفيسا" و"أڤيو" و"فيرتيللي".