في فترات تاريخية بعينها، عُدّ لبنان عند إنسان المشرق العربي نموذجاً للحرّيات السياسية والإعلامية، على الرغم من كلّ علاته. شوائب "الديمقراطية الطائفية" وممارسة "أبوية" للزعامات، لم تثن لبنانيين كثر عن المراهنة على مساهمة الأجيال الجديدة في تخليص نظامهم من خطف مذهبي يحول الديمقراطية إما على مزاج "الزعيم" وحاشيته، أو إلى حرب أهلية.
الفوز العابر للطوائف من قبل مرشحي طلب التغيير ووجوه من "ثورة 17 تشرين"، يبدو أنه استحق تهمة التخوين والعمالة. في السياق العربي، خلال العقد الأخير، كنّا أمام ظاهرة رسمية تقول للمواطن العربي: إما أحكمكم أو أقتلكم.
في قياس القول على الحالة اللبنانية، والعراقية إلى حد بعيد، تُحال معادلة الانتماء الوطني إلى سقف أبشع بكثير من السقف الرسمي، بالتخيير بين الطاعون والكوليرا، وعلى يد أحزاب وقوى تتجاوز الشعبوية الغربية، بل وباستعلائية "الأخ الكبير" أو المستقوي، الذي يمقت أصلاً تذكيره بنسمات حرية وديمقراطية بسيطة.
قبيل التصويت، أُحيل الناخب اللبناني إلى اختيار بين "عمالة" للأجنبي، أو "محددات سقف الوطنية" المقرة من "الأب القائد في الطائفة"، لفرض الأغلبية المزاجية.
وفي المعنى المباشر لفداحة تخوين الناس، بنتائج لم ترق للبعض، على تواضعها، يعيش لبنان وسط ظاهرة "حزبية" تخفض سقفاً آخر من سقوف النماذج التي تطلع إليها يوماً جيل عربي.
فمن المفهوم أن الديكتاتوريات ترتعب من خيارات الناس الحرّة، ومطلبها كنس الفساد، وإقامة دول القانون والعدالة والحريات، لكن في حالة بيروت فثمة جماعات وأحزاب تعتقد بعمق أن الطرف المقابل، مواطناً وقوى، مجرد قُصّر غير راشدين لا يعرفون بوصلة مصالحهم.
المشهد للأسف صار تذاكياً للعبور نحو اختزال مشهدية نظام حكم سورية بلكنة لبنانية تقول: إما أبقى للأبد أو أحيل حياتكم فوضى وجحيماً.
الاعتراف اللفظي بالديمقراطية، على بؤسها في لبنان، لا يعني إطلاقاً إجبار الناس على قبول ترقيع نظامهم المتفسخ أو توعدهم بمزيد من قيعان الكوارث، وبشد العصب الطائفي، خطير النتائج في التخندقات الجارية.
ما يجري ببساطة، وعن قصد، تحويل الديمقراطية في لبنان إلى احتقان ثم تنفيس، تدفع الناس أكثر نحو تغييب قسري عن أبسط معاني الوطن والمواطنة.