إنه ليس "المجلس الوطني للمقاومة" الذي أنشئ في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، وعمل بالسرّ لمقاومة حكومة فيشي. كما أن مجلس "الأيام السعيدة" كما ظلّ يسمى بعد نهاية الحرب، بعدما أسّس قبل أن ينسحب من المشهد، لنظام الرعاية الصحية والتقاعد والمكتسبات التي يتمتع بها الفرنسيون اليوم، لا يُشبه بمواصفات كثيرة، "المجلس الوطني لإعادة التأسيس" الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم الخميس، من المركز الوطني لرياضة الرغبي، في بلدة ماركوسيس في إقليم إيسون (إيل دو فرانس).
لكن ماكرون، منذ أن أعلن عزمه إنشاء "المجلس الوطني لإعادة التأسيس"، في يونيو/حزيران الماضي، في ذروة حملة الانتخابات التشريعية، أراد الغمز من قناة "مجلس المقاومة" التاريخي، ليس فقط لتقارب الاسمين، بل لشدّة الأزمة التي تعصف بفرنسا اليوم، في ظلّ الحرب الروسية على أوكرانيا.
قال ماكرون إن أعمال المجلس ستترافق مع استشارة شعبية
وإذ أصبح ماكرون يلّقب بـ"رئيس الأزمات" لكثرة ما لاحقت ولايته الأولى من أزمات تمتد إلى ولايته الثانية، فإن رغبته في حوار "تشاركي" مع الشعب والنقابات والمسؤولين المنتخبين والنواب، تبدو مفهومة، بعدما واجه اتهامات بالتفرد بالقرار في ولايته الأولى. لكن حجم المقاطعة لانطلاقة المجلس اليوم، من قبل المعارضات الفرنسية، والتي وصفت اختراع ماكرون الجديد بـ"البدعة"، تنبئ مُسبقاً بفشل مهمته، فيما ظلّ لسان حالها، وكذلك الفرنسيين، يسأل عن سبب تهميش ماكرون للبرلمان (الجمعية الوطنية)، والتي ربما كانت المكان الأجدر للحوار وتبادل الأفكار.
ماذا يريد ماكرون؟
ويطغى السؤال في فرنسا اليوم، حول "ماذا يريد ماكرون؟"، الذي فاز بولاية ثانية، بعدما اختار الفرنسيون عدم إيصال زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، ولا زعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون، إلى الإليزيه، واللذان نافساه بشدّة.
ويأتي ذلك فيما لم يتمكن الرئيس وحزبه "النهضة" (الجمهورية إلى الأمام سابقاً)، من الحصول على أكثرية مريحة في البرلمان، بل أكثرية نسبية قد لا تمكنه من تمرير خطط حكومته تحت قبّة الجمعية الوطنية التي تعجّ بالمعارضات.
فضلاً عن ذلك، يرى كثيرون أن حكومة إليزابيث بورن هي حكومة "إدارة وقت"، وليست صاحبة رؤية لما يمكن أن تكون عليه فرنسا بعد سنوات، أو كما يريد ماكرون أن يسلّمها للفرنسيين. ولذلك، ربما، اختار الرئيس الهروب إلى الأمام، واجتراح "المجلس الوطني لإعادة التأسيس"، والذي افتتحه اليوم، فيما اختار حتى بعض أصدقائه، مقاطعته. وقال رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، جيرار لارشيه (الجمهوريون)، المُقاطع، إن المجلس "ليس ما يمكن أن يحمل حلّاً لأزمة الديمقراطية في فرنسا".
افتتاح المجلس بمن حضر
وبمن حضر من نقابات ومسؤولين منتخبين وقادة أحزاب موالية له (موديم وآفاق)، افتتح ماكرون من ماركوسيس، المجلس الوطني لإعادة التأسيس، حيث تحدث كل من حاكم مصرف فرنسا المركزي، فرانسوا فيلروي دو غالو، ورئيسة المجلس الأعلى للمناخ، كورين لو كيري.
ولا يبحث ماكرون من خلال المجلس، عن "مواضيع" للطرح، إذ إنها محددة سلفاً، لكن المبادرة، التي يريد لها أن تنطلق سريعاً، مع لقاءات دورية منتظمة، تهدف للبحث عن "أسلوب جديد" للمقاربة والبحث عن "إصلاحات كبيرة" لمسائل أو عناوين حدّدها ماكرون لتكون عناوين حملته الرئاسية الثانية، على أن يعمل على وضع تصورات إصلاحية لها خلال السنوات الخمس من ولايته الثانية. وتدور العناوين حول: التوظيف بدوام كامل، التصنيع، المدرسة، الصحة، الشيخوخة، والانتقال الإيكولوجي (البيئي). واستبق المتحدث باسم الحكومة، أوليفييه فيران، افتتاح المجلس، بالقول إنه لا يهدف إلى خلق هيكلية مشابهة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (سي سي)، الذي انتقد جيرار لارشيه أول من أمس الأربعاء، عدم تفعيله.
ويريد الرئيس الفرنسي، بحسب ما رأى حين أعلن عن رغبته بإنشاء المجلس، في حديث للصحافة المناطقية في يونيو الماضي، "أن تتخذ القرارات في البلاد بطريقة أكثر أفقية"، بعدما انتُقد في ولايته الأولى لتغييبه الحوار. رغم ذلك، فإنه داخل المعارضة، بأحزابها المختلفة، ولدى الرأي العام، وحتى داخل فريق السلطة، يثير إنشاء المجلس، الذي سيشرف على أعماله رئيس حركة "موديم" الوسطية (جزء من ائتلاف السلطة)، فرانسوا بايرو، الجدل، ويحثّ على المزيد من توجيه الانتقاد لماكرون، خصوصاً بعدما منيت بالفشل، مبادرات حوارية كثيرة كان أطلقها خلال ولايته الأولى، ومنها "الحوار الوطني الكبير"، أو "مؤتمر المواطنية من أجل المناخ".
يريد الرئيس الفرنسي أن تتخذ القرارات في البلاد بطريقة أكثر أفقية
وأطلق ماكرون أيضاً، اليوم، من ماركوسيس، "استشارة وطنية واسعة جداً"، بهدف "إعادة الفرنسيين إلى قلب الخيارات الكبرى للأمة"، في وقت يواصل فيه التحذير من حجم التحديات التي تواجهها فرنسا وأوروبا في الوقت الراهن، و"انتهاء عهد الرفاهية"، في ظلّ الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها على مستوى عيش الأوروبيين، خصوصاً مع ارتفاع تكاليف الطاقة. وشرح ماكرون أن نتائج "الاستشارة" التي ستجري على الأرض وإلكترونياً، ستُكمل أعمال المجلس.
وفي إشارة إلى الانتقادات المعارضة، أو البرلمان، اعتبر الرئيس الفرنسي أن "الأسئلة الكبرى، مثل الانتقال البيئي أو الديمغرافي، تخلق توترات بشدة داخل المجتمعات، لا سيما لناحية الأسئلة الاستهلاكية أو المالية التي تثيرها، لدرجة أن السياسات العامة حولها لا يمكن تحديدها ببساطة داخل الحكومة أو بنصوص قوانين، وذلك من أجل بناء انتقالات، وتوافق حول فرنسا ومستقبلها".
ووجّه الرئيس الفرنسي انتقاداً للغائبين. وقال إن "52 شخصاً يمثلون القوى السياسية والنقابات والمسؤولين المنتخبين، دعوا، 40 منهم حضروا اليوم. الغائبون الـ12 مخطئون، ولا يجب أن يقولوا لاحقاً إنهم لم تجر استشارتهم، أو إن القرارات تؤخذ بشكل عمودي جداً". وأضاف أن "الباب سيبقى مفتوحاً للنقاشات المقبلة".
واعتبرت صحيفة "لوفيغارو"، اليوم، أن ماكرون، الذي انطلق ضعيفاً في ولايته الثانية، ويعرف أن المعارضة تتربص به للانتقام منه، لا يزال يبحث عن نهج، ويؤجل بقدر المستطاع معركة اللاهثين لخلافته. وكتبت الصحيفة في افتتاحيتها، أن الأكثر إثارة للقلق، هو أن هذه الطريقة الجديدة للحكم، تخفي غياب الأهداف، أكثر مما تخفي أيضاً الرغبة بالحوار لإيجاد الحلول. ورأت أن ماكرون، الذي أعيد انتخابه من دون برنامج، يبدو دائماً وكأنه يبحث عن أفق لسياسته. وتساءلت الصحيفة اليمينية: "هل فقد ماكرون طول اليد؟ ماذا يريد أن يقترح؟ لا أحد يعرف".
(العربي الجديد)