يتبدل المشهد الأمني في مالي بسرعة نحو الانزلاق إلى مزيد من المواجهات المسلحة، مع تنامي الضغوط من جانب المجموعات المسلحة على الدولة، أكان من حركات الأزواد في شمال البلاد، أو تنظيم "داعش" الذي يعود لبسط سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي.
وفي حين يعاني هذا البلد من اضطرابات منذ العام 2012، فإن عاملين أساسيين ساهما في انزلاق المشهد الأمني نحو الأسوأ، الأول رحيل القوة الفرنسية لمكافحة الجهاديين في 2022 من مالي، والثاني الانسحاب المستمر لبعثة الأمم المتحدة (مينوسما)، بطلب من المجلس العسكري الذي تولى السلطة بالقوة في 2020.
تنسيقية حركات أزواد تعلن الحرب
والجديد في هذا المشهد جاء من شمالي البلاد، بإعلان متمردين سابقين من تنسيقية حركات أزواد في شمال مالي، أمس الأول الاثنين، أنهم في "زمن حرب" مع المجلس العسكري، وذلك في بيان قالت وكالة "فرانس برس" إنها تسلمت نسخة منه. ودعت التنسيقية، وهي تحالف جماعات مسلحة تسعى للحكم الذاتي أو الاستقلال عن مالي، في بيانها الذي نشر أيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي، جميع سكان منطقة أزواد الشمالية إلى "التوجه للميدان للمساهمة في الجهد الحربي".
أعلن متمردون سابقون من تنسيقية حركات أزواد في شمال مالي أنهم في "زمن حرب" مع المجلس العسكري
وأكدت التنسيقية، في بيانها الذي وقّعته للمرة الأولى جماعة تطلق على نفسها اسم "الجيش الوطني الأزوادي"، أن هدفها هو "الدفاع عن الوطن وحمايته وبالتالي استعادة السيطرة على كامل أراضيه"، كما دعت المدنيين إلى الابتعاد عن "إرهابيي فاغنر". ويُعتقد على نطاق واسع أن المجلس العسكري في مالي يحصل على الدعم من مجموعة المرتزقة الروسية "فاغنر".
وفي سياق قريب، أعلنت مجموعات مسلحة في شمال مالي أمس الثلاثاء، في بيان، سيطرتها على بلدة بوريم الرئيسية الواقعة بين غاو وتمبكتو، بعد اشتباكات مع الجيش المالي. وأصدر "الإطار الاستراتيجي الدائم"، وهو تحالف من فصائل مسلحة وقّعت اتفاق سلام مع الدولة عام 2015، بياناً قال فيه إنّه نفذ عملية في بوريم وسيطر على "المعسكر والعديد من المواقع المتقدمة" للجيش المالي ومجموعة "فاغنر". وقال المتحدث باسم "الإطار الاستراتيجي الدائم" محمد المولود رمضان "وقعت اشتباكات عنيفة". ولم يصدر أي تعليق من السلطات المالية.
وسبق ذلك إعلان تنسيقية حركات أزواد، مساء السبت، إسقاط طائرة تابعة للجيش المالي. وقالت التنسيقية، في رسالة قصيرة على شبكات التواصل الاجتماعي، إنها أسقطت، السبت، "طائرة لإرهابيي فاما/ فاغنر بعد قصف مواقع" للتنسيقية. و"فاما" هي القوات المسلّحة المالية. من جهته، أفاد الجيش بوقوع "حادثة" تتعلّق بطائرة تابعة لقواته، السبت، في منطقة غاو (شمال البلاد). ولم يقدم المزيد من التفاصيل. ويعدّ إسقاط طائرة عسكرية تابعة للجيش من قبل الجماعات المسلّحة في الشمال عملاً غير مسبوق في السنوات الأخيرة.
وما زاد حدة التوتر هو إعلان محافظة منطقة غاو، الأحد الماضي، أنها ستفرض حظر تجوّل ليلي لمدة 30 يوماً بين الساعة الثامنة مساء والسادسة صباحاً مع استثناءات محدودة للمركبات العسكرية.
وكانت المجموعات المتمردة التي يشكّل الطوارق غالبية أفرادها، قد وقّعت عام 2015 اتفاق سلام مع الدولة المالية يُعرف باسم اتفاق الجزائر، لكن هذا الاتفاق معرّض الآن للانهيار مع تجدد العنف. وفي أواخر أغسطس/ آب الماضي، دعا المجلس العسكري في مالي الجماعات المسلحة في الشمال إلى استئناف الحوار وإحياء اتفاق السلام المتعثر. وشهدت مالي انقلابين عسكريين، الأول في أغسطس عام 2020 أطاح بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، أعقبه انقلاب ثان في مايو/ أيار 2021 عندما أطاح زعيم المجلس العسكري الحالي أسيمي غويتا بالرئيس الانتقالي باه نداو. ومن حينها يتولى المجلس العسكري الحكم في البلاد، والذي دفع لوقف التعاون العسكري مع فرنسا، مستعيناً في المقابل بمجموعة "فاغنر".
ويستمر التوتر في التصاعد بين تنسيقية حركات أزواد والسلطة في مالي منذ أشهر. وقد برزت هذه التوترات مع بدء انسحاب بعثة الأمم المتحدة (مينوسما)، المنتشرة في مالي منذ العام 2013، والتي دفعتها السلطات المالية للمغادرة في العام 2023.
وأنهى مجلس الأمن الدولي في 30 يونيو/ حزيران الماضي مهمة بعثة "مينوسما" في مالي استجابة لرغبة باماكو. وأمام "مينوسما" مهلة حتى 31 ديسمبر/ كانون الأول المقبل للانسحاب من مالي بعد نحو عقد من الوجود في الدولة الأفريقية للحفاظ على الاستقرار وسط حركات تمرد انفصالية وجهادية. وتعارض الجماعات المسلّحة نقل معسكرات البعثة الأممية إلى الجيش المالي، وسط تنافس على السيطرة. وجعل المجلس العسكري من استعادة السيادة أحد أهدافه.
كما بدأ المشهد الأمني في شمال مالي يتبدل بشكل واضح منذ رحيل القوة الفرنسية لمكافحة الجهاديين في 2022. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ذلك الوقت: "لا يمكننا أن نظل منخرطين عسكرياً إلى جانب سلطات الأمر الواقع التي لا نشاركها استراتيجيتها وأهدافها الخفية. الحرب ضد الإرهاب لا يمكن أن تبرر كل شيء".
خطر "القاعدة" و"داعش"
وليس التصعيد مقتصراً على حركات الأزواد، إذ يبرز أيضاً دور تنظيمي "القاعدة" و"داعش". ووقع هجوم، الخميس الماضي، نسب إلى جهاديين واستهدف زورقاً في نهر النيجر، ما أدى لمقتل عشرات المدنيين. كما شن جهاديون، الجمعة، هجوماً انتحارياً على معسكر للجيش في غاو، غداة الهجوم في النهر المذكور وآخر على موقع عسكري. وقتل 64 شخصاً، هم 49 مدنياً و15 جندياً، في هجومي الخميس بمنطقة بامبا بين تمبكتو وغاو، شمال البلاد. وأعلنت "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" المرتبطة بتنظيم "القاعدة" مسؤوليتها عن هجومي الخميس والجمعة اللذين استهدفا منشآت عسكرية.
وفي نيويورك، قال مساعد المتحدث باسم الأمم المتحدة فرحان حق: "نحن بالتأكيد قلقون جداً. إنه مؤشر إضافي إلى وجوب أن تبذل كل القوى على الأرض جهوداً إضافية لحماية الناس في وقت تنجز فيه بعثتنا انسحابها بحسب التفويض المعطى لها". وسبق أن تعرّض مركب لهجوم بصاروخ في الأول من سبتمبر/ أيلول الحالي في منطقة موبتي جنوباً، ما أسفر عن مقتل طفل وإصابة شخصين بجروح.
في أقل من عام، ضاعف تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" تقريباً مناطق سيطرته في مالي
وأعلنت "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في مطلع أغسطس الماضي، فرض حصار على تمبكتو التي يسكنها عشرات آلاف الأشخاص وسيطر عليها المتمردون الطوارق ومن ثم السلفيون بعد تمرد العام 2012. واستعادت القوات الفرنسية والمالية المدينة في 2013.
وبشأن خطر تنظيم "داعش"، ذكر تقرير لمجلس الأمن الدولي صدر في أغسطس الماضي أنه "في أقل من عام، ضاعف تنظيم (الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى) تقريباً مناطق سيطرته في مالي". ويشير محللون إلى أن الهجمات الأخيرة في مالي تقع في مناطق كانت تشهد تركزاً كبيراً للقوات الأجنبية. وبحسب المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، فإن الوضع الأمني في مالي يتدهور بسبب نبذ المجلس العسكري بعض الجهات السياسية المحلية، وكذلك سحب تعاونه مع الشركاء الأمنيين العالميين.
(العربي الجديد، فرانس برس)