لا يترك اليمين المتطرف الفرنسي مناسبة عامة، من دون أن يحاول توظيفها ضد الهجرة المغاربية. وبعد أن بلغ الذروة في الهجوم على كأس العالم بكرة القدم التي أقيمت في قطر، لأنها جرت ونجحت على أرض عربية، استغل مباراة فرنسا مع المغرب، والتي جرت مساء الرابع عشر من الشهر الحالي، ليطعن في حق حمل الجنسية المزدوجة للمغاربيين، والذي يجيزه القانون الفرنسي.
يعتبر اليمين المتطرف، أن ولاء الذين ينحدرون من أصول مغاربية، ويحملون الجنسية الفرنسية، هو لبلدان الجذور وليس لفرنسا، ولذا يجب وضع هؤلاء أمام خيار التخلي عن إحدى الجنسيتين. وسبق لعميد اليمين المتطرف مؤسس "الجبهة الوطنية" جان ماري لوبان أن دعا لذلك، وقال "لا يمكن الإخلاص لبلدين معاً". وسارت على الطريق نفسه خليفته في قيادة الحركة، ابنته مارين لوبان، التي طالبت عام 2014، بوضع حد للجنسية المزدوجة.
اليمين المتطرف يصوّب على ازدواج الجنسيتين
وكان النهار الذي شهد المباراة حافلاً بالتصعيد الإعلامي، من أجل حشد رأي عام يساند دعوة اليمين المتطرف، التي انطلقت من أن بعض لاعبي الفريق المغربي ولدوا في فرنسا ويحملون جنسيتها، ولكنهم اختاروا اللعب مع بلد الآباء والأمهات، ضد بلد مسقط الرأس والإقامة وجواز السفر، وهذه مناسبة كي تتخذ الحكومة موقفاً صريحاً من المسألة، وتتبنّى قرار عدم ازدواج الجنسيتين.
يعتبر اليمين المتطرف أن ولاء الذين ينحدرون من أصول مغاربية، ويحملون الجنسية الفرنسية، هو لبلدان الجذور
مباراة فرنسا المغرب أفاضت كأس اليمين المتطرف الطافحة بالعنصرية، ولكن الحملة بدأت قبل ذلك، حينما أصبح كل مظهر احتفاء بالمونديال، في الضواحي التي تسكنها أغلبية مهاجرة، علامة على إشهار الهوية الأخرى. وقبل أن يصل الأمر إلى تأهل كل من فرنسا والمغرب للمواجهة، كانت الأعلام هي المستهدفة، وحصل انقسام حاد من حول هذه النقطة، بين بلديات تمنع رفع العلم المغربي من قبل المشجعين، وأخرى تسمح به، وترفعه إلى جانب العلم الفرنسي، ولا ترى في المسألة أي بُعد سياسي أو هوياتي.
سبق المغرب فرنسا بالتأهل بساعات، ونزل مشجعون للفريق المغربي إلى جادة الشانزليزيه، التي تحوّلت إلى ساحة يرفرف فيها العلمان المغربي والفلسطيني. وحين تأهل المنتخب الفرنسي نزل مشجعوه إلى الساحة نفسها، ولكنهم لم يجدوا مساحة كافية خاصة بهم ليحتفلوا، فحصل اختلاط بين مشجعي الفريقين من دون أي احتكاكات كبيرة. وباعتراف وزارة الداخلية الفرنسية كانت الاحتفالات الأقل شغباً، ومع ذلك صوّرتها قنوات تلفزيونية، قريبة من اليمين المتطرف، على أنها أحداث عنف.
استغلال أحداث العنف
العنف الذي ظهر بعد نهاية مباراة فرنسا المغرب الأربعاء الماضي، لم يقتصر على مشجعي الفريق المغربي، بل شارك فيه بقوة اليمين المتطرف. وأفادت التقارير الرسمية للشرطة الفرنسية بأنه تم اعتقال 266 متظاهراً في كافة أنحاء فرنسا، منهم 40 من اليمين المتطرف في باريس يحملون أسلحة طعن حادة.
وقالت تقارير إعلامية إن هؤلاء خططوا للاصطدام مع مشجعي الفريق المغربي، ولذلك هناك من يحمّلهم مسؤولية قتل الفتى المغربي أيمن (14 عاماً) في مدينة مونبلييه عن طريق الدهس بالسيارة. وقال المدعي العام، إن "التحقيق موجه إلى جناية القتل العمد باستخدام سيارة".
لم يتحرك اليمين المتطرف لوحده من أجل توظيف المناسبة، بل هناك أطراف عديدة، بعضها يعلن عن نفسه، والآخر يتحرك من وراء الستارة. لكل منها هدفه، وتتقاطع الأهداف عند مسألة واحدة. وهناك عدد من وسائل الإعلام الصفراء وجد في ذلك مادة مهمة، من أجل اجتذاب أكبر عدد من القراء والمشاهدين.
تتعدد أهداف الحملة. الأول هو الذي طفى على السطح قبل بدء المونديال، وعبّرت عنه الهجمة الإعلامية الكبيرة الموجهة ضد قطر، والتي استمرت طيلة الحدث الرياضي، وهناك مؤشرات على أنها ستستمر إلى أمد منظور، طالما أن قطر لم ترضخ للإملاءات. ولهذا تعرّض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى انتقادات واسعة في وسائل الإعلام لأنه سافر إلى الدوحة، وحضر مباراة فرنسا مع المغرب، وأشاد بنجاح قطر في تنظيم المونديال، وحتى صحيفة "لوموند" الرصينة عنونت "فشل مقاطعة المونديال".
أحد الأسباب الرئيسية هو مسألة رفع العلم الفلسطيني من قبل لاعبين في المنتخب المغربي، منذ أول مباراة خاضها وتعادل فيها مع كرواتيا.
وتكرر الأمر في كافة المباريات، باستثناء المباراتين الأخيرتين. وظهر أن هناك عدم رضى من قبل أوساط دولية، ومنها إسرائيل التي مارست ضغوطاً على السطات المغربية، من أجل ثني اللاعبين عن القيام بهذا العمل التضامني مع الشعب الفلسطيني، الذي تجاوز تأثيره ملاعب كرة القدم إلى فلسطين والعالم العربي.
رفع علم فلسطين من قبل اللاعبين المغاربة دل على أن التطبيع مع إسرائيل يخص الحكومات، ولا يهم الشارع
رفع علم فلسطين من قبل اللاعبين المغاربة وجّه رسائل عدة. الأولى هي أن الشعب المغربي مع فلسطين، وحين لاحت له فرصة ليعبّر عن ذلك، أعرب عن مشاعره الفعلية. والثانية هي أن التطبيع الذي قام به بعض العرب مع إسرائيل يخص الحكومات، ولا يهم الشارع الذي يبقى مع فلسطين. والثالثة هي وضع فلسطين داخل أكبر حدث دولي، يحظى بأوسع مشاهدة تلفزيونية وتغطية إعلامية، وهذا ما شكل صدمة كبيرة لإسرائيل ومؤيديها.
ظهر الانزعاج بقوة من أوساط إعلامية في الجالية اليهودية بفرنسا، وصدرت مواقف ودعوات للضغط على المغرب، ومنها الصحافي الإسرائيلي جان مارك بن عمو، الذي طالب ملك المغرب محمد السادس بالاعتذار عن رفع اللاعبين العلم الفلسطيني، واعتبر أن ذلك "ينسف التطبيع" بين المغرب وإسرائيل. ومارست هذه الأوساط حملة ترهيب وبث شائعات، منها أن السلطات المغربية أبلغت إسرائيل بأن موقف اللاعبين لا يمثل الموقف الرسمي للمغرب.
رفع علم فلسطين في ملاعب الدوحة، صار يقابله لدى أوساط فرنسية مؤيدة لإسرائيل، الدعوة لمنع رفع العلم المغربي في التظاهرات التضامنية في فرنسا، وهذا أمر لم يحصل سابقاً، على الرغم من أن كل الجاليات الأجنبية تتظاهر، وهي رافعة أعلام بلدانها الأصلية حين تحتفل في مناسبات تخصها. وشكّلت الدعوة مفاجأة للرأي العام، حتى أن استطلاع رأي أظهر أن 81 في المائة ضد التوجه إلى منع رفع العلم المغربي.
وترافق هذا مع حملة تشويه طاولت الفريق المغربي، وكانت هذه المرة على نطاق واسع ومن قبل وسائل إعلام أوروبية مؤثرة، كما هو الأمر في تلفزيون "دي فيلت" الألماني، الذي قام بتأويل بعض إشارات اللاعبين المغاربة والسجود على الأرض وقراءة الفاتحة على أنها رموز "داعشية".
تداعيات فتور العلاقات المغربية الفرنسية
هناك خلفية أخرى للحدث تتمثل بالضغط على المغرب من قِبل أوساط فرنسية لأسباب أخرى، وهو ما يعبّر عنه الفتور في العلاقات بين البلدين، وسحب السفراء بين باريس والرباط منذ حوالي عام، بذريعة تقليص تأشيرات السفر للمغاربة إلى فرنسا إلى أقل من النصف. إلا أن مصادر مغربية تؤكد أن أحد أسباب الفتور في العلاقات يعود إلى عدم حسم فرنسا موقفها من قضية الصحراء، على غرار ما فعلت الولايات المتحدة ودول أخرى.
واعتبرت وسائل الإعلام الفرنسية أن حضور ماكرون المباراة هو مناسبة لتبريد الأجواء وامتصاص التوتر، من خلال اللقاء مع ملك المغرب محمد السادس التي رجحت حضوره هو الآخر، ولكنه لم يفعل، وهو ما اعتبره بعض المعلقين الفرنسيين استمراراً للجمود في العلاقات.
ولكن تصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا الإيجابية من الرباط يوم الجمعة بددت التكهنات، ومهدت الطريق لزيارة قريبة لماكرون إلى المغرب، علماً أنه لم يزر هذا البلد منذ عام 2018. مع العلم أن مباحثات جرت يوم الجمعة الماضي بين وزيرة الخارجية الفرنسية ونظيرها المغربي ناصر بوريطة أنهت "أزمة التأشيرات".
تحوّلت مباراة فرنسا المغرب إلى شأن سياسي فرنسي داخلي، وعلى صلة ببلدان الهجرة المغاربية
انعكست الحملة الإعلامية سلباً على الفريق المغربي، الذي ظهر متأثراً بها سواء من خلال التصريحات التي صدرت عن المدرب وليد الركراكي لجهة أن الفريق المغربي يمثّل أفريقيا، أو من خلال توقف أعضاء الفريق عن رفع العلم الفلسطيني وإرسال إشارات ذات طابع ديني.
وتبيّن أن اشتداد الحملة خلال الأيام التي سبقت المباراة بين الفريقين الفرنسي والمغربي، هو جزء من حملة نفسية للتأثير على معنويات الفريق المغربي، الذي بدا أنه يهدد بتجاوز المنتخب الفرنسي كما هزم بلجيكا وإسبانيا والبرتغال. وتحدثت بعض وسائل الإعلام عن العدد الكبير للجمهور المغربي، وأن مدرب الفريق الفرنسي ديديه ديشامب شكا من ذلك.
تحوّلت مباراة فرنسا المغرب إلى شأن سياسي فرنسي داخلي، وعلى صلة ببلدان الهجرة المغاربية. وهناك تقديرات تؤكد أن تداعيات الحدث مرشحة للتفاعل في المدى المنظور، وستنعكس في العديد من الملفات الخاصة بالهجرة والعنصرية والإسلاموفوبيا، وعلاقة فرنسا بمواطنيها من الشباب المغاربيين، الذين ولدوا على أرضها، وتعلموا في مدارسها وجامعاتها، وحملوا جنسيتها، لكنهم لا يحصلون على فرص الاندماج الكامل.