بدأ رئيس الحكومة التونسي المكلّف الحبيب الصيد بسلسلة من المشاورات السياسية مع الأحزاب، مباشرة بعد تكليفه الإثنين الماضي بمهمة تشكيل الحكومة، وهي مهمة تتراوح بين يُسرٍ مهدت له بعض التحالفات السياسية السابقة لتكليفه، وعسر الواقع السياسي والاقتصادي نفسه.
فالمعادلة صعبة بين رغبات الأحزاب وطموحاتها الخاصة وتصوّرها للمشهد الحكومي، وبين تصوّر حزب "نداء تونس" الفائز في الانتخابات ورؤية الصيد نفسه التي تقوم على ضرورة النجاح في ملفات مؤجلة.
وهذه المعادلة المعقّدة تستوجب حالة من التفاهم السياسي العام والكثير من التنازلات الحزبية، بالإضافة إلى نجاعة مطلقة في العمل الحكومي تتطلّب تعيين كفاءات حقيقية في الوزارات، وتراعي تمثيلاً سياسياً حقيقياً للأحزاب المتحالفة التي أجمعت على أنها لا تقبل بكفاءات من خارجها، وأنها تريد تمثيلاً حزبياً يُمهد لقاعدة سياسية مساندة للعمل الحكومي الذي يحتاج لسلسلة من الإصلاحات الحقيقية الصعبة في السنتين المقبلتين على الأقل.
ويرى "نداء تونس" أن وجود حركة "النهضة" في هذه الحكومة، ضروري لضمان هذه القاعدة الواسعة، على الرغم من بعض الأصوات من داخله التي تدعو إلى العكس، ولكن الأمر يبدو محسوماً من قيادة الحزب بضرورة وجود "النهضة"، وهي رؤية تقاسمها إياها حركة "النهضة"، التي أكد قيادي بارز فيها لـ "العربي الجديد" أن الحركة تريد أن تكون جزءاً من هذه الحكومة نظراً لثقتها الكبيرة في رئيسها، وتجانساً مع فكرة حكومة الوحدة الوطنية التي دعت إليها منذ أشهر وحتى قبل الانتخابات.
وأوضح القيادي في "النهضة" أن اللقاء الذي جمع الصيد برئيس الحركة راشد الغنوشي وبعض قياداتها، مكّن من تقديم تصور "النهضة" للحكومة المقبلة، والذي يقوم على جملة مبادئ، أولها أن تكون الحركة ممثّٓلة بما يليق بها كحزب ثانٍ في البرلمان، وأنها تميل لحكومة سياسية لا كفاءات مستقلة، غير أنها تتمسك في الوقت نفسه بأن تكون الوزارات السيادية محايدة، وخصوصاً وزارتي العدل والداخلية. هذا الأمر لا يتناقض مع إمكانية تعيين الأمين العام لـ "النداء" الطيب البكوش في وزارة الخارجية أو وزير دولة، بعد أن كانت "النهضة" اعترضت على تعيينه رئيساً للحكومة.
ووصلت "العربي الجديد" تسريبات غير مؤكدة، أن البكوش ربما يكون التقى الغنوشي لرفع هذا "الفيتو" بسبب تصريحات ومواقف كثيرة للبكوش ضد التحالف مع "النهضة" إبان الحملة الانتخابية.
وأكد القيادي في "النهضة" أن الحركة مرنة في خصوص المشاورات الحكومية، وأنها لا تتمسك بوزارات من دون أخرى، مشدداً في الوقت نفسه على أن كل الأخبار التي نُشرت حول بعض الأسماء من قيادات الحركة في بعض الوزارات غير صحيحة.
وكان وفد من "النهضة" عبّر إثر لقائه رئيس الحكومة المكلف، عن تمسّك الحركة بحكومة تقوم على أساس التوافق والشراكة بين أوسع طيف سياسي ممكن.
وأكّد المتحدث الرسمي باسم الحركة زياد العذاري، في تصريحات صحافية عقب اللقاء، أنه لم يتم التشاور مع الصيد بخصوص الحقائب الوزارية، مشيراً إلى أن هذه المسألة يمكن مناقشتها إذا ما حصل اتفاق على مشاركة "النهضة" في الحكومة.
من جهة أخرى، أفاد رئيس كتلة "النهضة" البرلمانية نور الدين البحيري، في تصريح صحافي، بأن "مشاركة الحركة في الحكم رهن بقرار مجلس الشورى فيها".
وأعلن البحيري أن الصيد طالب الحركة بتحديد موقفها من ثلاث نقاط أساسية، تتمثّل في رؤيتها للحياة الاقتصادية والاجتماعية مستقبلاً، وهيكلة الوزارات، وأخيراً الأدوار والشخصيات التي يمكن أن تكون في التركيبة الحكومية المزمع تشكيلها. معلناً أن "النهضة منذ البداية مع حكومة وحدة وطنية تجمع أكثر ما يمكن من الطيف السياسي".
وسيحدد مجلس شورى "النهضة" نهاية هذا الأسبوع موقفه النهائي من كل هذه المسائل ومن الحكومة ككل.
وفي سياق المساعي لتشكيل الحكومة، التقى الصيد بقية الأحزاب وفق ترتيبها وتمثيلها في مجلس النواب، من دون أن يستثني أياً منها على الرغم من موقف بعضها المعارض لتعيينه أصلاً.
والتقى الصيد رئيس حزب "الاتحاد الوطني الحر" سليم الرياحي، ورئيس كتلته محسن حسن، اللذين أكدا أنهما ضد المحاصصة الحزبية وتقسيم المواقع الحكومية بين الأحزاب على أساس أحجامها بل على أساس الكفاءات، مع الإشارة إلى أن هناك مشاورات سابقة جمعت بين "الاتحاد الوطني الحر" وحزب "آفاق" و"نداء تونس" حول هيكلة الحكومة وإعادة النظر في تشكيل بعض الوزارات وتجميع بعضها في شكل أقطاب لتقليص الفريق الحكومي.
كما لفت لقاء الصيد مع زعيم "الجبهة الشعبية" حمة الهمامي وبعض قياداتها، على الغرم من موقف الجبهة الناقد لتعيين الصيد ولأسلوب "نداء تونس" في التقارب الكبير مع "النهضة".
وعلى غرار بقية الأحزاب، طلب الصيد من "الجبهة" تقديم تصوّرها لبرنامج عمل الحكومة الجديدة فيما يتعلق بالملفات المستعجلة وذات الأولوية.
في غضون ذلك، تنتشر أخبار عن التعيينات وأسماء المرشحين المحتملين من هذا الحزب أو ذاك، بعضها ينطلق من طموحات قيادات تَطرح أسماءها بنفسها لاختبار ردود الفعل، غير أن بعض المصادر الجدية أكدت لـ "العربي الجديد" أن وزير الدفاع الحالي غازي الجريبي سيكون له دور مهم في الحكومة المقبلة، وربما يُعيّن وزيراً للعدل أو الداخلية، في حين يبدو أن عبد الكريم الزبيدي (المرشح السابق لرئاسة الحكومة الذي رفض العرض) سيكون أيضاً من الأسماء البارزة في الحكومة الجديدة، بعدما عبّر عن رغبته إبان المشاورات بأنه لا يمانع تعيينه في الحكومة من دون ان يرأسها.
وقالت بعض المصادر الحزبية الرفيعة لـ "العربي الجديد" إنها تتمنى لو يقبل حقيبة الداخلية الصعبة، لحياده ونزاهته ووقوفه على المسافة نفسها من كل الأحزاب.
وتبدو معادلة توزيع الحقائب صعبة للغاية، فالحكومة ستتشكّل من 35 وزارة، ستُوزّع بين أربعة أحزاب على الأقل مع تحييد بعض الوزارات واستمرار بعض وزراء الحكومة السابقة في مهامهم، وهذا ما يبدو أمراً عسيراً على الصيد وعلى الأحزاب في الوقت نفسه، فـ "النداء" تتقاذفه طموحات شخصية كثيرة تسببت في مشاكل وخلافات أصبحت على مرأى ومسمع الجميع، و "النهضة" تريد أن تكون مُمثّلة بما يليق بها كحزب ثانٍ في الساحة، كما تشترط بقية الأحزاب أيضاً وجود كفاءاتها في الحكومة وفي حقائب محددة لضمان نجاحها الشعبي.
وبين الحسابات الحزبية وشروط نجاح الحكومة في رهانات اجتماعية واقتصادية صعبة، يجد الصيد نفسه بين فكي الواقع والحسابات، غير أن الذين يعرفون الرجل يدركون أنه ليس شخصية سهلة وأن له شروطه الخاصة أيضاً وطموحه الشخصي في النجاح، وأنه لن يقبل أن يكون في مهبّ التجاذبات الحزبية على حساب نجاح حكومته، ويمكن أن "يردّ المنديل لأصحابه" إذا لم يضمن قاعدة حقيقية للنجاح.