لا يمكن فصل الخلافات التي تخيّم على انتخابات مجلس النواب المصري حالياً، بين أجهزة النظام ودوائر وعائلات وشخصيات مختلفة في جميع المحافظات بسبب اختيارات مرشحي القائمة الموحدة والفردي الذين ضمنوا مقاعدهم النيابية، عن حزب "مستقبل وطن" والأحزاب المتحالفة معه وبعض المستقلين، عن حدثين وقعا أخيراً وشغلا الرأي العام المصري. الحدث الأول هو اعتقال المحامي طارق جميل سعيد بعد نشره مقطع فيديو ينتقد طريقة اختيار المرشحين ونواب مجلس الشيوخ، قبل أن تخلي النيابة العامة سبيله، الأحد الماضي، بكفالة قياسية قدرها ثلاثمائة ألف جنيه (19 ألف دولار أميركي). أما الحدث الثاني، فهو التهديد بوقف النشاط الرياضي الذي يلاحق رئيس نادي الزمالك والنائب البرلماني مرتضى منصور، المعروف بقربه من السلطة، وصداقته لشخصيات بارزة في دائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى حد حمايته سابقاً من عشرات البلاغات وقرارات الاستدعاء القضائية على مدار خمس سنوات.
الرابط السطحي الظاهر بين هذه الأمور الثلاثة هو تعلّقها بفضيحة الحصول على المقاعد النيابية مقابل مبالغ مالية بعشرات الملايين من الجنيهات. فعلى الرغم من أنّ هذه الظاهرة كانت من العادات الانتخابية في عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، إلا أنها المرة الأولى تقريباً التي تحدث فيها هذه الظاهرة بشكل أقرب للمزاد العلني بين المرشحين في كل دائرة، وبصورة معلومة للجميع، وإلى حد وضع أسعار لمقاعد بعض الدوائر، سبق وكشفت عنها "العربي الجديد". إذ إنّ المتوسط العام للمبالغ المسددة للمقعد الواحد في القائمة بلغ ثلاثين مليون جنيه، وفي الفردي بالصعيد بلغ حوالي خمسة عشر مليون جنيه، بينما وصل السعر في القاهرة والجيزة إلى عشرين مليون جنيه، وفي الدلتا بلغ عشرة ملايين جنيه. لكن الوضع تفاقم عندما تم جمع مبالغ مالية أقل من مرشحين آخرين مقابل الاتفاق معهم على أن يخوضوا الانتخابات كمستقلين، وأن ينضموا إلى حزب "مستقبل وطن" في مرحلة الإعادة أو لدى فوزهم حال خسارة مرشحي الحزب، وهو ما حدث في جميع الدوائر من دون استثناء.
ورود فضيحة شراء المقاعد النيابية على لسان شخصيتين من المحسوبين على النظام، يعكس اضطراباً في الأوضاع التي حاول السيسي ترسيخها داخل نظامه
وبالتالي، فلم تكن إشارة طارق جميل سعيد إلى هذه المسألة في مقطع الفيديو الذي اتُهم بسببه بتكدير السلم العام، ثمّ إشارة مرتضى منصور إليها عرضاً في مداخلة ببرنامج بقناة ناديه، مفاجئة من حيث المحتوى، بل كانت كاشفة لوجود معارضة لدى بعض الدوائر داخل النظام، لها علاقة بسعيد ومنصور، للأسلوب الذي تدار به الانتخابات، وربما هي معارضة لتجنيب تلك الدوائر واستبعادها من سلطة اتخاذ القرار وتحديد المرشحين، وهذا هو الرابط الأعمق بين المشاهد الثلاثة.
فمنذ أجهز السيسي على ما تبقى من فلول مبارك في المخابرات العامة ووزارة الداخلية، كمدير المخابرات الأسبق عمر سليمان، ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، تزامناً مع عملية إخراس صوت المرشح الرئاسي الأسبق أحمد شفيق ونقله من الإمارات إلى مصر، والإطاحة بمدير جهاز المخابرات السابق خالد فوزي، وانتقال صديق السيسي وكاتم أسراره اللواء عباس كامل من إدارة القصر الرئاسي إلى إدارة المخابرات العامة والاستئثار بملفات السياسة والإعلام والاقتصاد، بدا وكأن الأجهزة بدأت تعمل في تناغم وترابط. وعلى الرغم من الخلافات في وجهات النظر في ملفات عديدة بين المجموعة الجديدة المسيطرة على المخابرات العامة، والمجموعة الجديدة أيضاً المسيطرة على الأمن الوطني في عهد وزير الداخلية الحالي محمود توفيق، إلا أن تلك الخلافات لم تطفُ على السطح كثيراً، وتراجعت بشدة الأصوات النادرة التي كانت تجهر في الإعلام بمعارضة قرار أو اتجاه، خصوصاً في المجال السياسي.
كما شهدت فترة العامين السابقين على الاستحقاق الانتخابي الحالي، تقسيماً واضحاً للعمل بين المخابرات العامة والأمن الوطني والرقابة الإدارية في الملفات المهمة للسيسي، وعلى رأسها تعديل الدستور والانتخابات والتشريع. وقد تركت المخابرات بعض المساحات للأمن الوطني، مع ضمان عدم الخروج في نهاية المطاف عن الأدوار المرسومة والأهداف التي يريد تحقيقها السيسي، مما انعكس بتكبيل سلطة الأمن الوطني في إدارة المشهد السياسي والإعلامي كما كان الوضع في عهد مبارك. وحتى مع التحفظ على السياسات الجديدة، فإن خروج شخصيات موالية لدوائر غاضبة للحديث في وسائل الإعلام كان من المستحيلات، نظراً للسيطرة الكاملة على الدوائر ووسائل الإعلام معاً.
بيد أنّ ورود فضيحة شراء المقاعد النيابية على لسان شخصيتين من المحسوبين على النظام، مع الفارق بينهما في القوة والنفوذ لصالح مرتضى منصور، يعكس اضطراباً في الأوضاع التي حاول السيسي ترسيخها داخل نظامه، وخللاً في التحكم بمنظومة التنسيق بين الأجهزة، حتى وإن كان الحديث عن شخصية معروف عنها الانفلات الإعلامي مثل مرتضى منصور، لأن علاقته الوطيدة بمدير المخابرات عباس كامل كانت تردعه عن التمادي في هجومه على بعض الشخصيات والأوضاع.
ووفقاً لمصادر سياسية في حزب "مستقبل وطن"، ونيابية في البرلمان، وأخرى قانونية قريبة من المحاميين المعروفين بالعداء لبعضهما، فإنّ فضح منصور وسعيد لظاهرة شراء المقاعد لم يكن نتيجة زلة لسان للأول ولحظة طيش للثاني، بل هو "خطأ" تكللت به خلافات طويلة بينهما وبعض المقربين منهما -كل على حدة- وبين المسؤولين المكلفين بتقسيم البرلمان الجديد وتوزيع مقاعده.
قضية منصور بدأت بصراع بين مدبولي وصبحي من جهة وعباس كامل من جهة أخرى
فقبل أشهر من فتح باب الترشيح، رفض مرتضى منصور التنسيق مع مسؤولي المخابرات والأمن الوطني المخططين للقائمة الموحدة، على الرغم من دعوته إلى الانضمام لها، بحسب بعض المصادر، بسبب عدم إعطائه الحجم المناسب له حسب اعتقاده، شعبياً وجماهيرياً، فلم يكن منهم إزاء إصراره على خوض الانتخابات مستقلاً إلا بالرد عليه بالدفع بمرشحين عن حزب "مستقبل وطن"، على الرغم من محاولته تعطيل هذا الأمر مراراً، مما أغضبه بشدة.
واعتبر منصور في اتصالات ولقاءات مختلفة بشخصيات سياسية وأمنية، أنّ القائمين على الحزب يتعمدون التقليل من شأنه على عكس تعامل مدير جهاز المخابرات نفسه معه. ولكن اتصالات مرتضى لم تفلح في تغيير الواقع، بما فسرته المصادر على أنه "رسالة ضجر منه من قبل دائرة السيسي بسبب تعدد مشاكله وتكرار هجومه على شخصيات لها ثقلها الظاهري في الحياة السياسية، كرئيس الوزراء مصطفى مدبولي ووزير الرياضة أشرف صبحي والنائب العام السابق المستشار نبيل صادق".
ووفقاً للمصادر، تكرر الأمر مع نجله أحمد الذي يخوض الانتخابات في دائرة الدقي مستقلاً أيضاً، بعدما لم يعرض عليه حزب "مستقبل وطن" الانضمام إليه في أي من المراحل السابقة بسبب ضعف أدائه وشعبيته، مما ضاعف إحساس مرتضى منصور بالغضب والمظلومية.
وربطت بعض المصادر بين تصاعد الحملة الرياضية على مرتضى منصور بمسألة وقفه وحرمانه من تولي المناصب الرياضية لمدة 4 سنوات، وفق القرار الذي صدر أخيراً عن اللجنة الأولمبية المصرية، وبين الخلافات السابق ذكرها، وبصفة خاصة انتقاد مرتضى للحزب وطريقة إعداد القوائم واختيار المرشحين في العديد من اللقاءات في مكتبه الشخصي ومكتبه بنادي الزمالك، والتي وصلت تفاصيلها إلى الأجهزة المختلفة، واعتبرتها تجاوزات تتطلب العقاب.
لكن مصادر أخرى ذكرت، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنّ قضية منصور بدأت بصراع خفي بين رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ووزير الرياضة أشرف صبحي من جهة، وعباس كامل من جهة أخرى، بسبب عدم تحرك الأخير لرد اعتبار مدبولي بعد هجوم منصور عليه أكثر من مرة. وأوضحت أنّ صبحي هو من تولى بنفسه حشد الاتحادات الرياضية ودفع الأطراف المبلغة ضدّ منصور، كاشفةً أيضاً عن تقدمه بشخصه وصفته بعدد من البلاغات الجديدة للنيابة العامة ضدّ منصور والتي لم يعلن عنها رسمياً بعد.
ويعكس حديث المصادر، سواء استمرت الهجمة الشرسة على مرتضى منصور أو توقفت لاستطاعته عرقلتها باتصالات عالية المستوى كعادته في صدّ الهجمات السابقة، أنّ حركة النظام وأجهزته وأذرعه، التي منها منصور، باتت بعيدة عن التماسك والتناغم، خصوصاً أنّ بعض المصادر تتحدث عن دفع بعض الشخصيات النافذة بقوة لمساندة خصوم مرتضى منصور ونجله، وحرمانهما من دخول مجلس النواب المقبل. وهو موقف يخشى منصور من أن يتحول لبداية نهايته، بحرمانه من الحصانة البرلمانية وتركه يواجه مصيره مع البلاغات والقضايا المتراكمة ضده.
حركة النظام وأجهزته وأذرعه باتت بعيدة عن التماسك
وعلى الرغم من اختلاف الأهمية وحجم التأثير، لا يبدو ما حدث لطارق جميل سعيد بعيداً عن بعض ما حدث لمرتضى منصور. فوفقاً للمصادر ذاتها، كان والده المحامي الجنائي الشهير والمستشار القانوني للعديد من المؤسسات التابعة للمخابرات والشرطة، جميل سعيد، قد حاول التنسيق مع شخصيات عدة لضم طارق إلى قائمة الأعضاء المعينين في مجلس الشيوخ، إلا أنّ طلبه قوبل بالرفض بسبب اعتراضات على طريقة تعامل الأخير مع وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً عندما ألمح بشكل سلبي إلى علاقة منصور بعباس كامل. بل إن تلك الشخصيات رفضت انضمامه لحزب "الشعب الجمهوري"، شريك حزب "مستقبل وطن" والمنسق معه في عدد كبير من الدوائر، للترشح باسمه في انتخابات النواب.
وكانت مصادر سياسية بحزب "مستقبل وطن" قد كشفت لـ"العربي الجديد" مطلع الشهر الماضي، ما يمكن اعتباره أحد جذور الأزمة السياسية الحالية للنظام، بتقسيمه أعضاء مجلس النواب المستهدفين إلى ثلاث فئات، أكبرها عدداً بنسبة تصل إلى ستين في المائة من الفردي والقوائم شاملة حصة المرأة، يتم اختيارهم وفق المعايير القبلية والعلاقات الإقليمية في المناطق الريفية. وقد أُسندت هذه المهمة إلى الأمن الوطني، الذي بدأ قبل أسابيع الاتصالات والاجتماعات التنسيقية مع العائلات والقبائل ولجان الأحزاب الموالية للنظام في المحافظات، بحضور مديري الأمن والعمد ومشايخ القرى. ليتم بعد ذلك تحديد المرشحين المختارين بناء على عوامل عدة، من بينها القدرة على الإنفاق على الدعاية لصالح القوائم أو الحزب، ودفع مبالغ مالية للنظام وأجهزته والمحافظات، إلى جانب مدى تعاون المرشحين أمنياً، وقوة اتصالاتهم بالأجهزة المختلفة.
أما الفئة الثانية، فنسبتها من إجمالي الأعضاء تصل إلى ثلاثين في المائة، وهي تضم نواب الفردي والقوائم في القاهرة الكبرى والإسكندرية والمناطق الحضرية على مستوى الجمهورية، وأسندت مهمة اختيارهم إلى لجان مشكلة من ممثلي الأمن الوطني والمخابرات العامة والرقابة الإدارية، فيما يلعب الجهازان الأخيران دوراً أكبر في الاختيار بناء على معايير، من بينها، وليس على رأسها، القدرة المالية للمرشحين. فالأهم بالنسبة للنظام بشأن هذه الفئة قوة التعاون مع الأجهزة، وكيفية التعامل مع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. وتحدثت المصادر وقتها عن توجه لاختيار نسبة كبيرة من هذه الفئة من بين الشخصيات الحزبية الحاصلة على دورات تأهيلية من الأكاديمية الوطنية للتدريب التابعة لدائرة السيسي، وأكاديمية ناصر العسكرية.
أمّا الفئة الثالثة التي تبلغ نسبتها عشرة في المائة، فيستأثر باختيارها جهاز المخابرات، وتحديداً مكتب مديره عباس كامل، بقيادة الضابط النافذ أحمد شعبان، مضافاً إليها نسبة الخمسة في المائة التي يعينها السيسي في المجلس، حيث سيتم اختيار رئيس البرلمان المقبل ووكيليه ورؤساء اللجان والمكاتب المختلفة من هذه الفئة.