تنعقد اليوم الثلاثاء جولة جديدة من محادثات مسار أستانة بين ما يُعرف بـ"الثلاثي الضامن" لتفاهمات هذا المسار في سورية (روسيا، تركيا، إيران)، في ظل انخفاض غير مسبوق لسقف آمال السوريين في أن تسهم هذه الجولة في مساعدة بلادهم على تجاوز أزمة مستعصية على الحل بسبب رفض النظام وداعميه الروس والإيرانيين تقديم تنازلات تسهّل مهمة الأمم المتحدة في تنفيذ قرارات ذات صلة. وهذه الجولة هي الـ16 منذ بدء هذا المسار في مطلع عام 2017 والذي اتخذته روسيا وسيلة لتصفية قضية السوريين وتقليص قوة فصائل المعارضة السورية للحد الأدنى، إذ فقدت هذه الفصائل كل مناطق نفوذها باستثناء جزء من محافظة إدلب وبعض ريف حلب الشمالي وجيب ضيق في منطقة شرقي نهر الفرات. وكل المناطق التي تسيطر عليها هذه الفصائل هي خاضعة عملياً للجانب التركي الذي يشعر بحرج موقفه في ظل الاعتداءات المتكررة على الشمال الغربي من سورية والتي تُوّجت السبت الماضي بمجزرة كبيرة في ريف إدلب الجنوبي من قِبل قوات النظام بمساندة وتوجيه روسي. وكان فريق "منسقو استجابة سورية"، قد وثّق مقتل 31 مدنياً بينهم 13 طفلاً، و4 نساء، واثنين من العاملين ضمن كوادر العمل الإنسانية في المنطقة، جراء قصف النظام السوري على شمال غربي سورية خلال الشهر الماضي.
الوضع غير المستقر في شمال غربي سورية والمساعدات الإنسانية أبرز الملفات على طاولة المحادثات
ومن المفترض أن تحضر العديد من الملفات الساخنة على طاولة المحادثات في العاصمة الكازاخية نور سلطان، لعل أبرزها الوضع غير المستقر في شمال غربي سورية والمساعدات الإنسانية، وآفاق استئناف عمل اللجنة الدستورية السورية في جنيف، وإجراءات بناء الثقة، بما في ذلك تبادل الأسرى، والإفراج عن الرهائن. ومن المقرر أن يشارك في هذه الجولة المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسن، والذي يحمل في جعبته العديد من الملفات السياسية لتحريك العملية التفاوضية المتوقفة بين النظام والمعارضة.
ودلّت المعطيات الميدانية على مدى أكثر من شهر على أن التفاهمات الروسية التركية حول التهدئة في محافظة إدلب ربما في طريقها للتآكل الا إذا أجرى الطرفان مقاربة جديدة تجنّب الشمال الغربي من سورية مواجهة عسكرية جديدة ستكون لها نتائج كارثية على نحو 4 ملايين مدني يقطنون المنطقة جلّهم نازحون، يسكن عدد كبير منهم في المخيمات.
ومن الواضح أن الضغط العسكري الذي يمارسه الروس عادة قبيل كل جولة من جولات أستانة هدفه الحصول على تنازلات من الجانب التركي، إما سياسية أو ميدانية. ويريد الروس استعادة الحركة التجارية على الطريق الدولي "أم 4" الذي يصل غربي البلاد بشمالها ويقطع مناطق سيطرة المعارضة السورية. كما أن العين الروسية على مناطق حاكمة في شمال غربي سورية، منها منطقة جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي أو التلال في ريف اللاذقية الشمالي. ولكن تقدّم قوات النظام في قرى وبلدات جبل الزاوية والبالغة أكثر من ثلاثين يعني حركة نزوح كبرى لا يتحمّلها الشمال الغربي من سورية الذي يعاني من أزمات معيشية كبرى.
لهذا يريد الروس من الأتراك مرونة في موضوع المعابر الداخلية بين مناطق النظام وبين مناطق المعارضة في محاولة لإنعاش اقتصاد النظام الهش والذي وصل إلى مستوى غير مسبوق في التآكل. والملف الأهم الذي سيحضر في هذه الجولة من أستانة هو تمديد القرار الدولي الخاص بإدخال المساعدات الدولية إلى سورية عبر معابر خارج سيطرة النظام، خصوصاً معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا. ويسعى المجتمع الدولي إلى تمرير القرار في العاشر من الشهر الحالي في مجلس الأمن الدولي مع إعادة فتح معبر اليعربية مع الجانب العراقي الذي تسيطر عليه "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) ذات الطابع الكردي. وترفض روسيا حتى اللحظة تمرير القرار، وتشترط أن تدخل هذه المساعدات عبر معابر تابعة للنظام مع الأردن ولبنان، في حين يرفض المجتمع الدولي الشرط الروسي لإدراكه أن الهدف منه التحكّم بالمساعدات وصرفها إلى النظام، أو للضغط الإنساني على فصائل المعارضة للحصول على تنازلات سياسية. كما يأتي الشرط الروسي في سياق محاولات حثيثة لم تفلح لإعادة تأهيل النظام إقليمياً ودولياً.
وتؤكد مصادر مطلعة أن موسكو تشترط رفع علم النظام السوري على معبري باب الهوى واليعربية أو أحدهما للموافقة على تمرير القرار، مع فتح المعابر الداخلية بين مناطق النظام والمعارضة. وناشدت "الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سورية، المجتمع الدولي إعادة اعتماد معبر اليعربية لدخول المساعدات إلى منطقة شرقي نهر الفرات التي تضم نحو 5 ملايين سوري، وفق هذه الإدارة، التي حذرت في بيان لها الأحد من "عواقب وخيمة من الناحية الإنسانية" في حال عدم فتح المعبر المذكور الذي أُغلق عام 2020 بفيتو روسي صيني مشترك.
وليس من المتوقع أن تحقق هذه الجولة أي اختراق حقيقي في ملف المعتقلين السوريين لدى النظام منذ عام 2011، إذ يرفض النظام بالمطلق الاقتراب من هذا الملف خشية الملاحقة القانونية لدى محاكم دولية، بل على العكس يفرج النظام بين وقت وآخر عن أسماء معتقلين قضوا تحت التعذيب. وشهد العام الحالي أكثر من عملية تبادل أسرى بين فصائل المعارضة والنظام في إطار صيغة أستانة برعاية تركية-روسية، آخرها كان منذ بضعة أيام، في معبر أبو الزندين في ريف حلب، وبحضور ممثلين عن الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي، إذ أطلق النظام خمسة معتقلين لديه مقابل خمسة عناصر من قواته كانوا محتجزين لدى فصائل المعارضة. وكانت قد جرت عملية تبادل في مايو/أيار الماضي في المعبر نفسه، تمثّلت بإطلاق "الجيش الوطني" التابع للمعارضة السورية سراح خمسة عناصر من قوات النظام، وإطلاق الأخير سراح أربعة أشخاص بينهم امرأة.
وعُقدت حتى اللحظة 15 جولة في اطار هذا المسار كانت بمثابة "الكارثة" على فصائل المعارضة التي لا تبدي كثير اهتمام بالجولة الـ16، لإدراكها أن النظام وضامنيه ليسوا في صدد اتخاذ خطوات جدية في اتجاه حلول سياسية للقضية السورية، بل إن هذا النظام لا يزال يضع خيار الحل العسكري في حساباته.
سيجري: يمكن النظر لأستانة على أنها محطة للتهدئة ومنع التصعيد خشية حدوث انفجار
وفي هذا الصدد، لا يعتقد القيادي في فصائل المعارضة السورية مصطفى سيجري، أن الجولة الجديدة من مسار أستانة يمكن أن تحقق أي إنجاز سياسي أو عسكري أو على صعيد ملف المعتقلين والمختطفين. ويضيف في حديث مع "العربي الجديد": "يمكن النظر لأستانة على أنها محطة للتهدئة ومنع التصعيد خشية حدوث انفجار وعملية ترحيل للخلافات القائمة حول المسائل الخلافية بين تركيا وروسيا في ظل غياب إرادة الحل الدولية". وحول إمكانية خروج هذه الجولة بتحديد موعد جولة جديدة من اجتماعات اللجنة الدستورية المنوط بها كتابة دستور جديد للبلاد، يقول سيجري: "أعتقد أن هذه المسألة تحتاج جهوداً أوروبية وأميركية".
ومتفقاً معه، لا يتوقع المحلل السياسي رضوان زيادة، في حديث مع "العربي الجديد"، نتائج إيجابية من هذه الجولة لجهة الملفات الرئيسية المطروحة على الطاولة في العاصمة الكازاخية، لأنه "ليس هناك أي تغيير في الموقف الروسي، والموقف التركي ما زال ينتظر التطورات من الإدارة الأميركية". ويعتقد زيادة أن الجانب التركي "لن يقدّم أي تنازلات للجانب الروسي، لا سيما أن العلاقة بين أنقرة وواشنطن تحسنت بشكل كبير منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض"، مضيفاً: "لن يقدّم الأتراك أوراقاً مجانية للروس في جولة أستانة".