انتهى الهجوم الإسرائيلي الواسع على جنين بملامح استرجاعية من عدوان "السور الواقي" إبان الانتفاضة الثانية، ولكن أيضًا بالمشهدية التي أرادتها المقاومة: كمائن وعبوات ناسفة، وقتيل - على الأقل - من نخبة جيش الاحتلال المقاتلة، بالتوازي مع صواريخ من غزة، هي الأولى منذ جولة القتال في مطلع مايو/ أيار الفائت. في رسم تصويري أكثر تكثيفًا، كانت منظومة الاحتلال كاملة، برؤوسها السياسية، ومؤسستها الأمنية، وآلتها الدعائية، تتلقى ركلة قوية بينما هي مرتدّة على أدبارها، تاركة جنين على الحال الذي كانت عليه قبل 3 ليال، باستثناء ما تعمّدت هدمه وتخريبه، و12 شهيدًا قتلتهم، جلهم فتية وأطفال في مقتبل العمر، ربما بالطريقة ذاتها التي أعدمت فيها فتى آخر في البيرة، ليلة الاقتحام، حينما واجه جنود الاحتلال أعزل تمامًا.
لكن تلك مشهدية بدا أن المقاومة، في الجبهتين، تصوّرتها سلفًا، ليس لتوقيتها المتزامن فحسب، بل لطبيعتها العملياتية؛ ذلك أنّ الطرق التي توغلت فيها قوات الاحتلال إلى المدينة، فالمخيم، هي ذاتها التي انسحبت منها، وكان في وسع المقاومة أن تبادر إلى الإيقاع بالقوات المقتحمة في لحظة الهجوم لا الانسحاب.
ويمكن قراءة هذا التكتيك الذي انتهجته المقاومة على عدّة أوجه، تمتدّ من حرب الميدان إلى حرب الدعاية. في الاعتبار الأول، كان من شأن أي مباغتة مبكّرة للقوات الإسرائيلية المهاجمة أن تكشف مواقع المقاومين وتجلب المزيد من القوة النارية الإسرائيلية، وتقدّم للاحتلال فرصة تصدير إنجازات في صورة اغتيالات كبيرة؛ وهو ما لم يحدث خلال هذا الهجوم. في الحسابات الواقعية، لا تملك المقاومة، بأدواتها المتبرعمة، الإمكانيات لصد هجوم بري واسع لجيش متقدم وعالي التقانة، ومن ثمّ فإنّ هامش الفرص لديها يكمن في الكمون والتربّص وإتيان العدو من حيث لا يتوقع، وهذا ما تجسّد في هذه الجولة.
يمكن أن نصل إلى النتيجة ذاتها لدى تتبع ما كان ينقله المعلّقون الإسرائيليون عن سير الهجوم، ومنهم المراسل العسكري للقناة 13 أور هيلر، الذي دخل جنين، أمس، تحت جناح إحدى الوحدات المقاتلة. يقول هيلر إن الاشتباكات كانت منعدمة تمامًا على مدار اليوم، وشبه منعدمة على امتداد ساعات الهجوم برمّته؛ لكنه أرجع ذلك - وقد تردد هذا على لسان كثير من زملائه ـ إلى "فرار" المقاومين خارج المخيم، وجنين بأكملها، مع انكشاف الهجوم في لحظاته الأولى.
والمتابع للإعلام الإسرائيلي يدرك أن هؤلاء المعلّقين، العسكريين منهم على وجه الخصوص، لا يتحدثون في الغالب إلا بما يُلقّنونه من المستويات الأمنية العليا، إن على سبيل المعلومة أو الدعاية الزائفة؛ وقد تكون رواية "فرار المقاومين" هذه، تبعًا لذلك، إما علامة فقر استخباراتي إسرائيلي، أو مناورة لدفعهم إلى الخروج من المرابض، أو تهيئة نفسية للجمهور الإسرائيلي لتقبّل انسحاب سريع من المخيم. لكن هذا الجمهور، الذي سيستيقظ اليوم على خبر مقتل جندي من نخبته، سيدرك أن هؤلاء المقاومين كانوا كامنين منذ البداية حيث مرّ جيشهم؛ وهذه الصفعة الأولى على مستوى حرب الدعاية.
الصفعة الثانية تنعكس من أرضية الأهداف التي انطلقت هذه الهجمة على أساسها، وهي، في النسخة الأشد "طوباوية" من الرواية الإسرائيلية، "إنهاء دور جنين كحاضنة للمقاومة"، كما ورد في تعميم حزب الليكود؛ وفي النسخة الأشد "تحفّظًا"، "توسيع نطاق الحرية العملياتية في المنطقة"، كما تردد في أوساط المستوى الأمني بالذات، ومن ذلك ما كتبه قائد ما يسمّى بـ"فرقة يهودا والسامرة (الضفة الغربية)" في جيش الاحتلال أفي بلوط، في رسالة للوحدات المنتخبة للهجوم. ومفهوم "الحرية العملياتية" هذا مردّه إلى ما حدث في جنين خلال الاقتحام الأخير قبل نحو أسبوعين، حينما انفجرت عبوة ناسفة فلسطينية، وصفت في الإعلام العبري بأنها "نوعية"، فأعطبت مصفّحة إسرائيلية حديثة من طراز "النمر"، وتركت حمولتها من الجنود بإصابات ما بين الخطرة والمتوسطة، ثم أجبرت جيش الاحتلال على اللجوء إلى سلاح الجو للمرة الأولى منذ الانتفاضة الثانية لتأمين انسحاب الجنود. بالمحدّدات الأمنية الإسرائيلية المعلنة، كان الغرض من هذه الهجمة على جنين ألا تتكرر تلك الواقعة، وأن يشعر جنود الاحتلال، مستقبلًا، بأنهم يعملون في "بيئة آمنة" من الفخاخ والكمائن؛ لكنهم عادوا بواحد منها في طريق الخروج، رغم كل ما روجوه في البيانات عن كشف عبوات ناسفة ومصانع متفجرات.
ثمّ جاءت الصفعة الثالثة من حدب آخر، من غزة التي بقيت جبهتها هادئة نسبيًّا منذ عدوان مايو/ أيار الماضي. أحد أركان الدعاية التي أرستها إسرائيل في هذه العملية - وهو في الحقيقة امتداد لسابقاتها خلال الأعوام الأخيرة - كان "فصل الساحات"، في مغايرة لشعار "وحدة الساحات" الذي رفعته حركة الجهاد الإسلامي خلال صد العدوان على غزة في أغسطس/ آب من العام الماضي. ظهر ذلك في ما تردد على امتداد يومي العدوان، نقلًا عن مصدر أمني مسؤول، حول "إرسال رسائل إلى غزة ولبنان بعدم التدخل"، ومن تهديد بأنّ "أي إطلاق صاروخي من غزة سيستتبع ردًّا قاسيًّا". ثمّ جاءت الصواريخ الخمسة، في لحظة كانت تجرّ فيها القوات الإسرائيلية أذيالها وتوابيت جنودها، كما ظهر في لقطات مصوّرة متقاطعة، على وقع احتفالات الشارع في جنين. وتلك لحظة مؤاتية، في المشهدين، لإيصال الرسائل بأبلغ ما يمكن، بينما يغيب الضامنون والوسطاء هذه المرة، وهم الذين يمهّدون في العادة سبيل "العودة الآمنة" لدولة الاحتلال من جولاتها التصعيدية.
لكن مضامين تلك الصواريخ الخمسة تتجاوز تفكيك دعاية "فصل الساحات" الإسرائيلية، وتبديد صورة الإنجاز التي كانت تتوق حكومة بنيامين نتنياهو، وأقطابها الأشد تطرّفًا، إلى المباهاة بها أمام الجمهور، وتعود بنا إلى ما هو أبعد، وتحديدًا إلى ما استقرّ عليه العدوان الأخير على غزة في مايو الماضي. تلك الحرب، التي بدأت باغتيال غادر لثلاثة قياديين في "الجهاد الإسلامي" و"سرايا القدس"، صدّرتها إسرائيل، بآلتها السياسية والإعلامية، باعتبارها تغييرًا في المعادلة مع غزة من "الصواريخ مقابل القصف" إلى "الصواريخ مقابل الاغتيالات"، وردّدت، كما في حديث سالف لنتنياهو، أن "الجهاد الإسلامي" تلقى "أكبر ضربة في تاريخه"، وأن ذلك سيلحقه هدوء على الجبهة ما زال ينشده مستوطنو "الغلاف" منذ أمد بعيد. أقلّ من شهرين مضيا على ذلك، ليرى هؤلاء مجدّدًا وعود مسؤوليهم تتبدّد تحت صافرات الإنذار.
هذه الهجمة حملت بدورها وعودًا مبدّدة جديدة، ومنها حديث عن "هدوء" مرتقب في سائر أنحاء الضفة، كما قال قائد القيادة المركزية في جيش الاحتلال يهودا فوكس. جاء الرد، في هذه المناسبة أيضًا، برمزيات لا تقلّ بلاغة: من أقصى جنوب الضفة، الخليل، وبوسائل أكثر بدائية من العبوات الناسفة والصواريخ التي تلهث وراءها قوات الاحتلال في جنين وغزة، أسقطت 9 جرحى في قلب تل أبيب. قبل ذلك بيوم واحد، للمفارقة، وبالتزامن مع خطاب نتنياهو الذي أعقب الاجتماع الأمني، وأعلن فيه ألا "سقف زمنيًا" للهجوم، كانت مصادر الصحف الإسرائيلية الأمنية تردد أن "هناك مخربين علينا القضاء عليهم في جنين، وإن لم نفعل، فربما نراهم غدًا في تل أبيب". ثم رأوا الشهيد عبد الوهاب خلايلة وقد جاء بلا أي "سجل أمني" مسبق.