شكّل حكم يسار الوسط الإسكندنافي لعقود أحد أهم نماذج الانتقال بالمجتمعات إلى "دولة الرفاهية" والعدالة الاجتماعية في أوروبا. واليوم تُحكم هذه الزاوية من القارة بأحزاب اجتماعية ديمقراطية. وعلى الأقل منذ عام 2019 يستمر النموذج الشمالي بالتقدم في استطلاعات رأي، على الرغم من كل العثرات التي جلبها انتشار وباء كورونا في عام 2020.
وباتت "مجموعة دول الشمال" (النرويج، السويد، أيسلندا، الدنمارك، فنلندا)، في قبضة الاجتماعيين الديمقراطيين. وباستثناء النرويج، برئاسة الديمقراطي يوناس غار ستورا، تتربع أربع نساء من تحالف يسار الوسط واليسار على هرم السلطة.
في فنلندا تتسيّد سانا مارين الحكومة، وفي السويد ماغدالينا أندرسون، وفي أيسلندا كاترين جاكوبسدوتير، وفي الدنمارك ميتا فريدركسن. وإلى الجنوب قليلاً، وسّعت ألمانيا من خريطة انتشار الاجتماعيين الديمقراطيين، وبدعم أقرب إلى اليسار، بمستشارها الجديد أولاف شولتز، خلفاً للمستشارة المحافظة أنجيلا ميركل. هذا بالإضافة إلى أن اللون الأحمر بات جزءاً من جنوبي القارة، في إسبانيا والبرتغال.
نجح الدنماركيون في كسر مسار الشعبويين في كوبنهاغن
وعكس ما كانت عليه صورة "أزمة يسار الوسط" الأوروبي في 2015، بعد التراجع في النمسا وهولندا وإيطاليا، فضلاً عن أزمة "العمال" البريطاني بعد مرحلة جيرمي كوربن، فإن ما تقدمه اللوحة السياسية الأولية في "دول الشمال"، باعتبارها هامة لقياس تقدم وتراجع معسكر الاجتماعيين الديمقراطيين الأوروبيين، تفيد بنجاح مساعي عودة المعسكر لنفوذه التاريخي.
وفي بعض الدول، وصلت إلى الحكم، تحت مظلة التيار نفسه، شخصيات أقرب إلى الاشتراكيين، كما في مرحلتي السويديين أولوف بالمه، حتى عام 1986 وستيفان لوفين حتى نهاية عام 2021، والدنماركي الراحل أنكار يورغنسن، والبرتغالي، صاحب الجذور الشيوعية، أنطونيو كوستا، والإسباني بيدرو سانشيز.
تراجع الأحزاب الشعوبية واليمينية المتطرفة
ويترافق تقدم تحالف يسار الوسط، وبقاعدة برلمانية مؤيدة من اليسار و"الخضر"، مع مؤشرات أزمات وتراجع إلى حد ما في شعبية أحزاب شعبوية ويمينية متطرفة. ويعبّر النموذج الدنماركي عن تلك الصورة، فقد قادت هيلي تورنينغ شميت البلاد بين عامي 2011 و2015، وهي أول امرأة من اليسار الوسط تحكم كوبنهاغن.
وبدا واضحاً منذ عام 2019 أن حكم يسار الوسط، بإسناد من اليسار، حاصر نفوذ اليمين المتطرف، وإن بقيت بعض آثاره، التي تبنتها حكومة يمين الوسط (برئاسة لارس لوكا راسموسن بين 2015 و2019، مع وزيرة الهجرة في حكومته إنغا ستويبرغ)، ماثلة في ما خص قضايا الهجرة واللاجئين السوريين على وجه التحديد.
واليوم يشهد حزب "الشعب الدنماركي" القومي المتشدد أزمة متواصلة منذ أواسط العام الماضي، بعدما وضع المهاجرين عنواناً للتصويب في برامجه وحملاته الانتخابية، ما جعله يحتل المرتبة الثانية في البرلمان في تشريعيات 2015، بنسبة نحو 22 في المائة من أصوات الناخبين.
لكن الحزب تراجع بشدة في انتخابات عام 2019، وحصل على 8.7 في المائة من أصوات الناخبين. وأدت الأزمة المتواصلة فيه إلى مزيد من التشظي، مع انسحاب أعضاء منه على خلفية أزمة اختيار قائد جديد للحزب، وهو ما تُرجم بتراجعه في استطلاعات الرأي إلى مستوى عتبة 4 في المائة.
مع العلم أن "الشعب الدنماركي" انبثق عن "الحزب التقدمي" في عام 1995، بزعامة بيا كيرسغورد، المثيرة للجدل في تعصبها القومي.
ويحاول حالياً حزب شعبوي جديد هو "البرجوازية الجديدة"، بقيادة بيرنيلا فيرموند، احتلال مكانة "الشعب الدنماركي"، بالتصويب على المواطنين من خلفيات إثنية شرق أوسطية.
عموماً، يبدو أن سياسة الاجتماعي الديمقراطي، برئاسة فريدركسن، بالذهاب نحو "تعاون عابر للأيديولوجيا الحزبية" أصبحت تسحب البساط من تحت أقدام معسكر التطرف القومي، وهو ما يُلاحَظ أوروبياً في استعادة الاجتماعيين الديمقراطيين مكانتهم على الخريطة السياسية الحاكمة.
قدم فوز البرتغالي كوستا، في انتخابات 30 يناير، صورة معززة لتقدم أشمل لليسار
فوز أنطونيو كوستا في البرتغال
في البرتغال، قدم فوز رئيس الوزراء الاشتراكي أنطونيو كوستا، في انتخابات 30 يناير/كانون الثاني الماضي، وبنحو 42 في المائة من أصوات الناخبين، صورة معززة لتقدم أشمل لمعسكر يسار ويسار الوسط الأوروبي.
ولم يأتِ تحقيق الأغلبية المطلقة في لشبونة من دون التغلب على عثرات كثيرة واجهت حكومته منذ تشكيلها في 2015، وتعزيز مكانتها في انتخابات 2019، ثم تفككها في العام الماضي بعد سحب الشيوعيين تأييدهم لها.
الناخب البرتغالي، الذي لمس نجاح حكومة بلده في مواجهة تحدي كورونا والانتقال بالاقتصاد من حالة مأزومة إلى نجاح، كافأ كوستا على سياساته. وفاجأت تلك النتيجة حتى معاهد الاستطلاعات التي توقعت تراجع حظوظ كوستا، فحقق الحزب تقدماً واضحاً برفعه عدد مقاعده البرلمانية من 108 مقاعد إلى 117 مقعداً، من أصل 230 مقعداً في البرلمان.
وما يميز الفوز "المطلق"، كما وصفته الصحافة البرتغالية، أنه حاصر شعبويي لشبونة، في حزب "شيغا"، الذي لا يختلف عن بقية يمين القارة المتطرف، بعدما حقق في 2019 فوزاً مقلقاً. وهو ما دفع كوستا إلى القول بعد صدور النتائج، إن "الأغلبية المطلقة لا تعني السلطة المطلقة"، داعياً إلى الحوار مع كافة الأحزاب، باستثناء "شيغا" المتطرف.
تلك الدعوة في الواقع تشبه مثيلاتها عند يسار الوسط الأوروبي، فاقتراب المعسكر من الانفتاح على مجمل الأحزاب التقليدية يستثني دائماً المتطرف منها. وهو ما تلمسه السياسة السويدية منذ عام 2014، باستبعاد التعاون مع حزب "ديمقراطيو السويد"، بزعامة جيمي أوكسون، وابتعاد الطبقة السياسية الألمانية عن منح "البديل لأجل ألمانيا" اليمين المتطرف نفوذاً كبيراً في البرلمان الاتحادي.
ويعزز الاتجاه العام في الأعوام القليلة الماضية، بذهاب معسكري اليسار ويسار الوسط إلى الالتقاء حتى مع المعسكر الليبرالي، من تخفيف آثار السنوات الأولى لاكتساح بعض شعبويي القارة في بعض دولها، تحديداً بعد عدوى الحالة الألمانية، إثر نشوء حركة "بيغيدا" (وطنيون أوروبيون ضد أسلمة أوروبا)، و"البديل لأجل ألمانيا" منذ عام 2013، وانتشار الشكوك بمشروع الاتحاد الأوروبي برمته، والاستفادة من أجواء خطاب التطرف الشعبوي مع أزمة اللجوء الكبيرة في القارة عام 2015.
ومن الواضح أنه في بعض أنحاء القارة العجوز، فإن معسكر "التشكيك" في الاتحاد الأوروبي لم يعد بالمستوى ذاته الذي ساد قبيل استفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد في عام 2016، وما تلاه من أزمات ومشاكل لامست مصالح مشتركة للجانبين الأوروبي والبريطاني.
حكومات يسار الوسط تتمدد
ويلمس اليمين التقليدي المحافظ في أوروبا بوضوح ميول الناخبين باتجاه الحفاظ على "الاستقرار"، بعدما أعادت التقلبات والأزمات التي نتجت عن معضلات مالية واقتصادية وسيطرة وباء كورونا التذكير بأهمية وجود حكومات قوية ومستقرة.
في إسبانيا مثلاً، عززت حكومة الاشتراكي بيدرو سانشيز مكانة يسار الوسط في مدريد، على الرغم من كل محاولات اليمين القومي استغلال أزمة كورونا والهجرة لجذب الناخبين إليه.
وعلى ما يبدو من نماذج التعاون في الحياة البرلمانية لمختلف الحكومات الأوروبية، من أيسلندا شمالاً إلى إسبانيا والبرتغال جنوباً، فإن شيئاً من الواقعية السياسية يلوح في الأفق.
واستناداً إلى تجربة الأعوام الأخيرة، يبدو أن الاجتماعيين الديمقراطيين، أقله في نماذجهم الشمالية، انتهجوا سياسة متابعة اهتمامات الناخبين، ليُصار إلى تسيير أمور الحكم ببعض تسويات لا تلغي مشاركة المحافظين في بعض القرارات الهامة، وأهمها الموازنات والسياسات الأمنية والخارجية.
وقدمت سياسة مجابهة تحديات وباء كورونا في نموذجها الإسكندنافي تعاطياً مختلفاً ليسار الوسط الحاكم، بإشراك مختلف الكتل البرلمانية في اتخاذ القرارات، من سياسة الإغلاق إلى اللقاح.
يعاني اليسار الإيطالي من قوة اليمين المتطرف في روما
في المجمل، ينظر يسار الوسط الأوروبي إلى التجربة البرتغالية ببالغ الأهمية، نظراً إلى أن بعضهم ذاهب خلال العامين الحالي والمقبل إلى انتخابات عامة.
فعندما وصل الاشتراكي البرتغالي إلى السلطة في 2015، كانت لشبونة تتخذ قرارات اقتصادية ومالية مؤلمة، ومجبرة عليها من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، في مقابل الحصول على حزم مساعدات ضخمة لإعادة البلاد إلى المسار الصحيح بعد الأزمة المالية، التي وقعت بين عامي 2010 و2014.
وخلال أربع سنوات فقط استطاع تحالف اليسار ويسار الوسط في لشبونة قلب الأمور المالية. وانتهجت الحكومة سياسة مسؤولية مالية اعتمدت على توزيع عادل للثروة وخلق بعض عدالة اجتماعية، كتحديد الحد الأدنى للأجور وخفض أيام العمل إلى أربعة أيام، وإيلاء الرعاية ودولة الرفاهية أهمية تستلهم بعض نماذج مجموعة دول الشمال، حتى أصبح للبرتغال في عام 2019 فائض ميزانية لم تشهده منذ عقود.
فرملة معسكر الشعبويين
ولا يعني تقدم يسار الوسط على الخريطة الأوروبية إنهاء حظوظ الشعبويين في اجتياز عتبات البرلمانات الوطنية، بل حتى البرلمان الأوروبي، بيد أن ما تقدمه تجربة النماذج المنتشرة من شمال القارة إلى جنوبها، يقدم صورة عن أن التيارات السياسية العقلانية، ليبرالية ويسار وسط، قادرة على فرملة معسكر الشعبويين واليمين المتطرف في تحقيق اختراق ثابت في الحكم، أو نفوذ كبير.
والتحديات التي تواجه يسار الوسط الإيطالي ليست سهلة بعد أزمة الاجتماعي الديمقراطي منذ سنوات. ويكفي النظر إلى الحالة التي يشكل فيها حزب "رابطة الشمال" اليميني المتشدد وحركة "النجوم الخمس" الشعبوية و"إخوة إيطاليا" الفاشية، بالإضافة إلى حزب "فورزا إيطاليا" (بزعامة رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني)، تحدياً جدياً للاجتماعي الديمقراطي وعموم يسار الوسط في روما، بعد أزمة حقيقية منذ 2018، وما تسبب به رئيس الوزراء الأسبق ماتيو رينزي من تشقق في معسكر يسار الوسط.
ويشكّل النموذج الإيطالي صداعاً أوروبياً، إلى جانب دول في شرق أوروبا تنتهج سياسات قومية متشددة. وعلى الرغم من نجاح رئيس الحكومة التكنوقراطي ماريو دراغي في تشكيل توليفة حكومية من الأحزاب المختلفة، لا يزال اليمين قادراً على فرط حالة الاستقرار التي تحتاجها ثالث اقتصاديات أوروبا للخروج من مآزقها المتواصلة.
وأظهر أخيراً فشل الطبقة السياسية في انتخاب رئيس جديد، خلفاً لسيرجيو ماتاريلا، هشاشة الواقع البرلماني والانقسامات على مستوى الأقاليم.
وعلى الرغم من ذلك، شكلت إعادة انتخاب ماتاريلا، كمخرج لا بد منه، فشلاً لتكتيكات اليمين، خصوصا زعيم "رابطة الشمال" ماتيو سالفيني، بأخذ البلاد نحو انتخابات مبكرة بدلاً من المقررة في العام المقبل. وهو فشل أدى إلى تصدع في تحالف زعيمة الحركة الفاشية جيورجيا ميلوني، مع بقية أقطاب المعسكر.
وتفتح مراجعات يسار الوسط الإيطالي هذه الأيام الأبواب لبعض الآمال بتشكيل جبهة في الوسط، تخفف ما يمكن أن يشكله تقدم "رابطة الشمال" وبقية تشكيلات الشعبويين في انتخابات 2023.