انتزع الجيش السوداني السيطرة على المقر الحكومي للإذاعة والتلفزيون في أم درمان بعد 11 شهرا تقريبا من وضع قوات الدعم السريع يدها عليه، في مكسب عسكري للجيش قد يشكل لحظة تحوّل في مسار الحرب بين شركاء انقلاب أكتوبر 2021.
وعقب معارك ضارية في أم درمان غرب الخرطوم، أعلن الجيش السوداني، الثلاثاء، انتزاع السيطرة على مقر الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون من قوات الدعم السريع، مؤكداً، في أول بيان له، أنه "تمكن (..) من انتزاع مقر الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون"، التي اعتبرها "ذاكرة ووجدان الأمة السودانية".
ولم تجد قوات الدعم السريع، في يوم 15 إبريل/ نيسان الماضي، تاريخ اندلاع الحرب بين الطرفين، صعوبة في السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون الواقع على الضفة الغربية لنهر النيل، لوجود معسكر لها قبل الحرب داخل أسوار المبنى كلف عناصره، مع قوى بسيطة من الجيش، بحماية المقر الذي يعد نقطة استراتيجية في مدينة أم درمان، استخدمته انقلابات عسكرية سابقة لإذاعة بياناتها.
ورغم سيطرة الدعم السريع على المبنى مدة 11 شهراً تقريباً، لم تتمكن من تشغيل لا الإذاعة ولا التلفزيون، لعدم توافر الكوادر الفنية.
وسيطرة الجيش السوداني على المبنى حظيت بأصداء واسعة سياسياً وشعبياً، إذ خرجت تظاهرات في كل من أم درمان وبورتسودان تعبر عن "سعادتها بما جرى". وأصدرت أحزاب وقوى وتجمعات سياسية بيانات تأييد للجيش، كما شغلت الواقعة شبكات التواصل الاجتماعي في السودان طوال الساعات الماضية.
وزار رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان، يوم الثلاثاء، سلاح المهندسين في أم درمان لأول مرة منذ اندلاع الحرب. وقال البرهان، في كلمة، إن القوات المسلحة ستواصل حصار الدعم السريع "في الجزيرة ونيالا وزالنجي والجنينة والخرطوم وبحري وكل مكان".
في المقابل، لم تصدر قوات الدعم السريع أي بيان رسمي بشأن ما جرى، في حين بدأت شخصيات محسوبة على الدعم السريع الترويج لفرضية "الانسحاب التكتيكي".
وبالسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون، تتزايد المناطق التي يفرض الجيش السوداني سيطرته عليها في أم درمان، وتشمل معظم مناطق المدينة، باستثناء مناطق في جنوبي وغربي المدينة لا تزال تحت يد الدعم السريع.
ويساعد تقدم الجيش السوداني في أم درمان في قطع خط الإمداد العسكري لقوات الدعم السريع الممتد من الحدود الغربية وصولاً إلى أم درمان.
وفي أكثر من مناسبة، راهنت قيادات الجيش على التقدم في كل أم درمان باعتبارها مدخلاً لفرض حضورها الميداني في مدينتي الخرطوم والخرطوم بحري، ومن ثم ولاية الجزيرة وبقية الولايات والمناطق الواقعة التي تقع تحت سيطرة الدعم السريع.
مرحلة جديدة
يقول الخبير العسكري أمين مجذوب إن معركة الإذاعة والتلفزيون "مفتاحية" لمراحل أخرى، لذلك "أدارتها القوات المسلحة بنوع من التكتيك والاستراتيجية، لأسباب عديدة، منها الحرص على عدم إلحاق أضرار بالأجهزة الفنية الموجودة في المقر، والسبب الثاني وجود عدد كبير من الأسرى سبق أن اتخذتهم الدعم السريع دروعاً بشرية".
وأضاف مجذوب، لـ"العربي الجديد"، أن "انتصار الجيش يتوقف على إغلاق أم درمان تماماً من الشرق والغرب في وجه كل وسائل الإمداد التي تأتي للمليشيا من غرب السودان أو من دول الجوار الغربي"، مشيراً إلى أن "الانتصار الأخير يمهد لتجميع القوات من شمالي وشرقي السودان في أم درمان، والتحرك نحو تحرير الخرطوم وشرق النيل".
وبحسب مجذوب، فقد "ساهم الانتصار في توفير دفعة معنوية كبيرة وسط الجنود والشعب عامة لما تمثله الإذاعة والتلفزيون من معان ورموز تتعدى كونه مجرد مبنى"، متوقعاً أن "تقدم الجيش أثّر على معنويات الدعم السريع"، ولم يستبعد "تحرك الجيش إلى مناطق أخرى مثل صالحة، جنوب أم درمان، لتغطية منطقة جبل أولياء، ومنع أي إمدادات للقوات في الخرطوم وشرق النيل".
الدعم السريع: انسحاب تكتيكي
مستشار قوات الدعم السريع، اللواء المتقاعد صلاح الدين عيساوي، قال لـ"العربي الجديد"، إن الجيش دخل "بالفعل إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون من الناحيه الشرقية، بعد انسحاب تكتيكي لقوات الدعم السريع"، لافتاً إلى أن الجيش "لم يبث مقاطع فيديو لمعارك دارت هناك، ولا عرض صوراً لقتلى أو جرحى أو أسرى"، مما يؤكد أن "المقر كان خاوياً حين تسلمه الجيش".
وتابع المتحدث، مقللاً من "انتصار" يروج له الجيش: "إذا افترضنا أن الجيش استرد الإذاعة في 11 شهر و9 أيام، فكم من عام يحتاج للسيطرة على 70% من المواقع والولايات" التي تقع خارج سيطرته، رافضاً بشدة "فرضية انهيار قوات الدعم السريع بعد معارك أم درمان".
وأكد عيساوي أن قوات الدعم "قادرةٌ على مواصلة الحرب، لأن الجيش لم يقضِ على كل القوة بمعداتها الحربية، الكفيل وحده بإمكانية حديث ممكن عن نهاية لوجود قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم".
"صدام مستقبلي؟"
يقول القيادي في حزب التحالف الوطني السوداني ماهر أبوجوخ إن سيطرة الجيش السوداني والمجموعات المتحالفة معه على مبني الإذاعة والتلفزيون "تعد أمراً معنوياً ومادياً عسكرياً، باعتبار أن قوات الدعم السريع كانت تعتبر منطقة الإذاعة والتلفزيون نقطة ارتكاز عسكري لقواتها الموجودة في أم درمان، ومقر القيادة الفعلية لقواتها في منطقة جنوب أم درمان".
ويشير أبوجوخ، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "بغض النظر عن التفاصيل العسكرية لسير المعركة، فإن النتيجة المترتبة عن هذه المواجهة تقود لاحتمالين. أولهما فتحها الطريق للوصول لاتفاق ينهي الحرب. أما الثاني، فهو الحسم العسكري، والأخير ترجحه شواهد توظيفه من قبل تيار ينادي باستمرار الحرب، كان قد شهد تراجعاً كبيراً، خاصة بعد تراجع الجيش في دارفور وكردفان، وأخيراً في لاية الجزيرة، واليوم يسوّق هذا التيار السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون بوصفه أولى خطوات النصر الحاسم".
وأضاف المتحدث أن "كل ذلك يقود فعلياً لإطالة أمد الحرب، واستمرارها بشكل أكثر ضراوة، مما يعني زيادة المعاناة الإنسانية المتصاعدة، وبالتالي مفاقمة كوارث الحرب وتداعياته الوخيمة على المدنيين".
وذكر أبوجوخ أن "تصعيد خطاب الحرب سيرفع القناع عن دور ووجود تنظيم الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني في الحرب"، مشيراً إلى ظهور قائد كتائب "البراء بن مالك"، المدعو بـ"المصباح"، في فيديوهات دخول الجيش للإذاعة، الذي يبدو أن الغرض منه "إظهار دورهم في العمليات الحربية وتحقيق الانتصارات".
ويقول: "من يشهد ذلك يستحضر صناعة حرس الحدود والدعم السريع نفسه، عبر إظهار أدوارها وترويج قادتها، قبل أن تتمدد تلك المجموعات وتصبح ذات نفوذ وسطوة، صنعها الجيش بيده، ثم قرر شنّ الحرب عليها باعتبارها مليشيات".
ويختم: "ما يحدث الآن هو تكرار للسيناريو الذي سبق إنتاج وتسويق الدعم السريع بالكيفية ذاتها، مع توقع نهاية مختلفة. الوقائع تقول إن هذه الحالة ستقودنا إلى صدام مستقبلي قد يتأخر، لكنه سيحدث في لحظة ما، نظراً لتشابه كبير في الوقائع والظروف".
الجيش السوداني: الحرب أم التفاوض؟
من جهته، يقول فتح الرحمن فضيل، رئيس حزب بناة المستقبل، إن "السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون تتعدى مجرد السيطرة على وسائل إعلام، إلى سيطرة على موقع تتحصّن فيه المليشيا، وقد اتضح ذلك من خلال المعركة وأعداد القتلى. بالتالي، السيطرة على المقر تفقد مليشيا الدعم السريع السيطرة الكاملة على أم درمان، وتضعف موقفها العملياتي، وموقفها التفاوضي".
ويشدد فضيل، في تصريحه لـ"العربي الجديد"، على أن "عملية التفاوض عملية غير منتهية، وبطاقات ضغط كل طرف تقوى وتضعف بحسب الوضع العملياتي"، مشيراً إلى أن "كثيرا من السودانيين الآن غير راغبين في التفاوض لاعتقادهم أن أي اتفاق يمكن أن يعيد المليشيا للدولة السودانية مرة أخرى هو اتفاق غير مقبول".
ويضيف: "كذلك، توافقت حركات مسلحة مع الجميع على إضعاف المليشيا بأكبر قدر ممكن، حتى في ظل اتفاق سياسي قادم، ليكون اتفاقاً مع قوة غير صلبة على الأرض"، متوقعاً مضي الجيش في مزيد مما وصفها بـ"الانتصارات" وعدم استعجاله التفاوض، بوصفه "طرفاً منتصراً، إلا إذا قدمت المليشيا تنازلات أكبر قبل أي مفاوضات".