بلغت معدلات الفقر في العراق مستويات غير مسبوقة
أمل القاضي عبد اللطيف أن يحتل الجيل الجديد الواجهة السياسية
علي السوداني: العملية السياسية باتت غطاء للمليشيات
على باب مركز تحديث بيانات الناخبين في حي الصالحية وسط بغداد، يتجمع عدد من الشبان، الذين ولد بعضهم بعد أسابيع من دخول الدبابات الأميركية العاصمة بغداد، والسيطرة عليها، في مثل هذا اليوم في العام 2003، وذلك بغية تسلم بطاقاتهم الانتخابية. وكانت المفوضية العليا للانتخابات أعلنت شمول مواليد سنة الغزو الأميركي للعراق في التصويت بالانتخابات المقررة في 10 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وسط تعاظم المخاوف من مآلات الأوضاع في البلاد، في ظل هيمنة المليشيات الموالية لإيران على أغلب مفاصل ومؤسسات الدولة، ودخولها مرحلة تنافس جديدة فيما بينها.
وما زال العراقيون يُمنون أنفسهم بعد 18 سنة من الغزو الأميركي لبلاد الرافدين، الحصول على بديهيات لدى دول أخرى مجاورة لهم وأقل ثراء من بلادهم، مثل خدمات الماء والكهرباء، حتى إن كانت بواقع نصف ساعات النهار لا كلها، فضلاً عن خدمات الصحة والتعليم، رغم إنفاق ما يزيد على 1000 تريليون دولار، من مبيعات النفط لوحدها خلال الفترة ذاتها، مع استمرار اعتماد البلاد على بنى تحتية مشيدة منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ويبقى هاجس الأمن الغائب على رأس الأولويات، إذ تخطى عدد المليشيات والفصائل المسلحة حاجز الثمانين تشكيلاً، بواقع 176 ألف مسلح، بعد موافقة البرلمان على ضم 30 ألف عنصر آخرين إلى هيئة الحشد الشعبي ضمن موازنة العام 2021، عدا عن استمرار تسجيل اعتداءات إرهابية بين يوم وآخر، وفشل الحكومات المتعاقبة في طي ملف النزوح، مع رفض فصائل مسلحة الانسحاب من بلدات ومناطق وتسليمها لأهلها، فيما بلغت معدلات الفقر مستويات غير مسبوقة، تجاوزت عتبة الـ 40 في المائة في عدد من مدن البلاد.
العملية السياسية بمواجهة جيل الاحتلال
ويكشف علي ستار عن ساقه، حيث تبدو آثار إطلاق رصاص تعرض له هو وزملاؤه العام الماضي خلال التظاهرات التي جرت قرب ساحة التحرير وسط بغداد، متحدثاً عن أنه كان بعمر 7 أشهر عندما غزت الولايات المتحدة العراق. ويضيف، لـ"العربي الجديد": "عمري من عمر هذه الحقبة. كبرت وصرت متظاهراً وناخباً وعاطلاً من العمل، ولم أر أي خير. سنشارك بالانتخابات والتظاهرات وبأي فعالية كانت من أجل التخلص من هذه الأحزاب. لم نر منهم أي خير".
وائل عبد اللطيف: القوى السياسية هيمنت على كل مفاصل ومؤسسات الدولة، وبات لديها فصائل مسلحة انتزعت لها صفة رسمية
ووفقاً لعلي ستار، الذي يعمل في معمل للبطاطس يقوم بقليها ليلاً وتوزيعها صباح كل يوم على باعة جائلين في حي الكاظمية شمالي بغداد، فإنه حرّض عدداً من زملائه وأقنعهم بالقدوم إلى مركز تحديث البيانات وتسلم بطاقاتهم الانتخابية. ويؤكد أنه "لم ينتخب أي مرشح، أو حزب، أو كتلة إسلامية، أو دينية، مهما كانت، وسيختار وجوهاً جديدة".
وتراجعت بشكل تدريجي، منذ عدة سنوات، مظاهر الاحتفاء التي كانت تنظمها الطبقة السياسية في العراق، في مثل هذا اليوم، بما كانوا يعتبرونه ذكرى تحرير العراق من الدكتاتورية، خاصة مع المعادلة السياسية العدائية الجديدة التي فرضتها قوى المحور الحليف لطهران، تجاه واشنطن، وبدت واضحة أكثر من أي وقت مضى منذ اغتيال أميركا لزعيم "فيلق القدس" قاسم سليماني، والقيادي في "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس، مطلع يناير/كانون الثاني العام الماضي.
مقابل ذلك، ظهرت، في الأيام الماضية، ما يمكن وصفها بمراجعات لعدد من عرابي الغزو الأميركي من العراقيين أنفسهم، أبرزهم إياد علاوي وعزت الشابندر. ولعل البارز في حديث الأخير، على تلفزيون "العراقية" الرسمي، قائلاً "نحن جئنا على أعتاب تغيير نفذته قوة غاشمة لها أهدافها واستراتيجيتها، ولم تسقط نظام صدام حسين لأجل عيون العراقيين على الإطلاق. وأنا قلت وأكرر، لو كنت بهذا الوعي الذي أمتلكه الآن عن أميركا ونواياها، لوقفت ضد الغزو الأميركي وليبق صدام حسين، لأن ما خلفه من غزو أبلغ جرح وضرر ودمار من بقاء صدام حسين لعشر أو 15 سنة أخرى". وأضاف "نحن الآن بلا دولة. المعارضة جاءت من الخارج و(شافت) نفسها أنها أمام مهمة ملء فراغ، لأن من سقط ليس النظام، بل الدولة التي انتهت. ووجدنا المهمة بغاية الصعوبة، والوقت يدهمنا وسوط الأميركيين ودول طامعة أخرى يجلدنا للاستعجال على اتفاق على دستور سلق سلقاً، ونظام سياسي مهترئ، نحن الآن نعاني من نتائجه".
وكان أول رئيس وزراء للعراق بعد الغزو الأميركي إياد علاوي، علق على الانتخابات المقبلة، في تصريح لمحطة تلفزيون محلية، الشهر الماضي، بالقول إن "الانتخابات بالعراق ما عادت تشرف أحدا، وأنا شخصياً خجلان من الاشتراك بالانتخابات، ومن المساهمة باختيار القوائم الانتخابية. ولا أقبل أن أرشح نفسي، ولا أقبل لأصدقائي الخاصين أن يفعلوا في أجواء كهذه معقدة و(طايحة حظ) ومتخلفة". وتساءل "إلى أين وصلنا؟ هذه الأجواء غير صحية لإجراء الانتخابات في العراق، ولازم (يجب أن) تتأجل، وتتوفر أجواء صحية حتى نتقدم للأمام"، متحدثاً "عن أهمية الاندماج مع التظاهرات الشعبية لتعديل الأمور ومنعها من الذهاب إلى الأسوأ". ويعتبر أن "العملية السياسية بنيت بناء خاطئاً، وأي رئيس وزراء يأتي سيذهب ضحية عملية سياسية خاطئة. وبات تعديل العملية السياسية ضرورة قصوى، تبدأ بانتخابات فيها نزاهة لا تقل عن 70 في المائة، وبخلافه، العملية السياسية سببت الفساد والمشاكل بالعراق".
بدوره، يقر عضو مجلس الحكم الانتقالي وأحد أعضاء لجنة كتابة الدستور العراقي، الذي يمثل اليوم نواة العملية السياسية الحالية في البلاد، القاضي وائل عبد اللطيف بما يصفه "تراجع كل شيء في البلاد". ويضيف عبد اللطيف، في حديث لـ"العربي الجديد": "كنا نسعى إلى الديمقراطية، وأن تكون للبلاد حكومات تمثل الشعب، لكن حصل انحراف بالمسار السياسي في البلاد، وخاصة بعد العام 2010، بعد قرار المحكمة الاتحادية الذي وأد الانتخابات، وجعل كتلة تفوز بتشكيل الحكومة بدلاً من أخرى. وجاء العام 2014 وما ترتب عليه في المشهد السياسي بعد اجتياح تنظيم داعش. لكن الأسوأ كان انتخابات عام 2018، وفي هذه الانتخابات حصل تزوير وتلاعب وصل لدرجة تحديد مقاعد الكتل والكيانات داخل البرلمان بإرادات دولية".
ويعتبر عبد اللطيف أن "المستوى العام في بلدنا يتراجع في التعليم والتربية والصحة والأمن، والفقر يتزايد، والجهل والأمية ترتفع مستوياتها، والبلد أصابته آفة المخدرات التي تأتي من دول الجوار. والقوى السياسية هيمنت على كل مفاصل ومؤسسات الدولة بما فيها المصارف، وبات لديها فصائل مسلحة انتزعت لها صفة رسمية، والسرقات طائلة، والتراجع في وضع البنى التحتية لا يحتاج لشرح، وأمراض السرطان تفتك بالناس". ويضيف عبد اللطيف، الذي يستعد لخوض الانتخابات المقبلة في قائمة مدنية جديدة، "نأمل أن يحتل الجيل الجديد، الذي ولد مع الاحتلال، الواجهة السياسية، وأن يقلص من الإسلام السياسي، أياً كانت توجهاته، لأنه ثبت أنه نظام فاسد ولا ينتمي للإسلام بأي شكل من الأشكال". ويعرب عن أمله في أن يحرز المدنيون بالانتخابات المقبلة 45 مقعداً في البرلمان. ويقول "لن نسمح بالتزوير أو التلاعب بانتخابات 2021، وسنطلب دعم وحماية الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وسيحقق المدنيون 45 مقعداً (من أصل 329)، وقد يكون ضعف هذا العدد. ونأمل ألا يكون هناك تأثير إيراني على الانتخابات المقبلة، بدعم أحزاب الإسلام السياسي".
فارس برفكاني: المواطن يدرك أن خيراته تذهب لغيره، وأنه ليس الهدف الأسمى للقوى السياسية
في السياق، يقول النائب فارس برفكاني، عن يوم الغزو الأميركي للعراق، بأن "التخبط والتدخل الخارجي بالقرار السياسي والأمني والاقتصادي ما زال مستمراً. لذا منذ 18 سنة لا نرى تقدماً، بل كل ما نراه هو تدهور يوماً بعد آخر". ويضيف "الكل كان يتوقع نتائج إيجابية بعد هذا اليوم في العام 2003، لكن ما حدث هو العكس، وما نعيشه الآن هو إفرازات ذلك اليوم، والعراقيون اليوم يعانون الأمرّين، والمواطن يدرك أن خيراته تذهب لغيره، وأنه ليس الهدف الأسمى للقوى السياسية، التي تدير البلد بل لجهات غيره". ويعتبر أن "الثمن كان باهظاً بمئات آلاف الضحايا والجرحى والمفقودين والمختطفين، وملايين الأيتام والأرامل، والدمار على طول الخريطة" العراقية.
83 مليشيا ترهن مستقبل البلاد للمجهول
يُجمع سياسيون عراقيون على أن التهديد الحقيقي للدولة واستقلال القرار السياسي والاستقرار الأمني في البلاد، هي الفصائل المسلحة التي تغولت بالعامين الأخيرين. ففي الوقت الذي يصف فيه عضو الحزب الشيوعي العراقي علي السوداني، الأوضاع بأنها زادت سوءا عن السنوات السابقة، يتحدث نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي ظافر العاني عن أن التهديد الحقيقي للدولة هي المليشيات المسلحة.
ويقول السوداني، عبر الهاتف من العاصمة الفرنسية باريس لـ"العربي الجديد"، إن "وجود 83 مليشيا مسلحة، أكثر من نصفها تدين بالولاء لإيران، وتتسلم مرتبات من الدولة العراقية وتعمل ضدها وضد مصالح البلاد هو الخطر الأكبر على البلاد". ويضيف إن "الأميركيين عليهم مسؤولية أخلاقية وإنسانية وقانونية بإصلاح ما اقترفوه في العراق. من غير المعقول بعد 18 سنة من وعود الديمقراطية والحرية أن يتم اعتقال شخص، أو حتى خطفه وقتله ورمي جثته، لمجرد أنه وضع إعجاباً على منشور في فيسبوك ينتقد زعيماً دينياً أو قيادياً في مليشيا". ويصف "العملية السياسية في العراق بأنها باتت غطاء للمليشيات التي تحدد من يبقى في العملية السياسية ومن يخرج منها". ويتابع "رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي يحاول التغيير، لكن الأمر أشبه بمحاولة بناء مستقيم داخل قالب أعوج".
في المقابل، يعتبر نائب رئيس لجنة العلاقات في البرلمان ظافر العاني أن التهديد الحقيقي للعراق بعد انكسار "داعش"، هو المليشيات. ووفقاً للعاني، الذي تحدث لـ"العربي الجديد" عن مخاوفه من عام صعب على العراق، فإن المليشيات "خلقت منظومة موازية لمنظومة الدولة، وبالتالي تحرم العراقيين فرصة نمو دولة رصينة مقتدرة لديها قدرة على مواجهة التحديات"، معتبراً أن "إضعاف الدولة العراقية من مصلحة داعش، وهو ما تقوم به المليشيات حالياً". ويتابع "التنظيم الإرهابي (داعش) من الممكن مواجهته، سواء كان محلياً من خلال الأجهزة الأمنية أو من خلال المجتمع الدولي، وخطره معروف، لكن المليشيات التي تتستر بالدولة يصعب مواجهتها، ومن الصعب فرزها عن المؤسسات العسكرية الرسمية، وهي تستخدم موارد الدولة وإمكاناتها، وتوهم الآخرين أنها تعمل في ظل الدولة، في حين أنها تقوم بممارسات لا تقل عن تنظيم داعش".
ظافر العاني: إضعاف الدولة العراقية من مصلحة داعش، وهو ما تقوم به المليشيات حالياً
وحول مراجعات بعض من كبار الساسة العراقيين بشأن هذا اليوم، يقول العاني "لا يوجد أحد لديه ذرة عقل ويملك أبسط رؤيا سياسية يرى بأن الاحتلال للوطن جيد، لكنهم كانوا مدفوعين بأجندة خارجية وليست وطنية. فالاحتلال لم يكن يستهدف نظام صدام، بل الدولة العراقية، والحكومات تأتي وتذهب، والمستهدف بمثل هذا اليوم هو العراق كدولة وليس كنظام سياسي". ويطالب العاني "السياسيين، الذين جاءوا على ظهر الدبابة، أو ظهر المحتل، بالاعتذار اليوم، وتحمل مسؤولياتهم التاريخية على ما اقترفوه بحق بلادهم"، واصفاً حديث الشابندر عن ندمه بأنه "شجاعة منه ومن آخرين، لكن الاعتذار لا يكفي، وعليهم تصحيح النهج الحالي". ويضيف "إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، أخشى أنها ستكون آخر انتخابات يشهدها العراق، والدولة تشارف على الاحتضار بعد 18 سنة. فقد ظهرت دولة بديلة، هي دولة المليشيات والمكاتب الاقتصادية ورجال الدين، وهذه الدولة الموازية بعيدة عن الدولة العراقية التي تستخدم معها سياسة إرضائية". ويتابع "هذا تحذير من الآن، العراق قد يكون ذاهبا للفوضى خلال الانتخابات، أو بعد إعلان نتائجها، وهناك ضرورة لأن يتم تدارك الأمور قبل تفكك الدولة بشكل كلي".