للأرض سرّها في قرى العرقوب، عند المثلث الحدودي بين لبنان وسورية وفلسطين المحتلة. يتدلى العنب فوق سطوح المنازل، وتلمع أكواز التين، كأنها صبية في مقتبل العمر، تتسمّر تحت شمس سبتمبر/أيلول. لقرى العرقوب قصتها الطويلة. هي المنطقة التي أسميت "فتح لاند"، أي المنطقة التي سمح اتفاق القاهرة عام 1969 للمقاومة الفلسطينية بالعمل العسكري فيها.
من هذه التلّة أطلقت أول دفعة صواريخ نحو فلسطين المحتلة، وفي تلك المغارة اختبأ الفدائيون. لكن أهل المنطقة لا يحبذون مرحلة "فتح لاند". حينها، هجروا من بلداتهم، وحصلت مناوشات بينهم وبين المقاتلين الفلسطينيين. أُسس "مجلس الجنوب" بحجتهم (مجلس أسسته الحكومة اللبنانية بهدف تنمية منطقة الجنوب، والتعويض على الجنوبيين خسائرهم جراء المعارك، وُيديره منذ تأسيسه مقربون من رئيس مجلس النواب، نبيه بري). لكن مساعداته لم تطلهم، وإن جاء شيء، فهو الفتات لا أكثر.
خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، بدأ أبناء العرقوب بالعودة إلى بلداتهم هرباً من المعارك الشرسة في بيروت. تجربتهم السيئة مع المقاومة الفلسطينية لم ترمهم في الحضن الاسرائيلي، بل كانت هذه المنطقة بأرضها وأبنائها، من أهم معاقل "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" (التي أسسها اليسار اللبناني). منها انطلق مقاتلون لبنانيون إلى شمالي فلسطين، في عمليات خاصة كانت الأولى من نوعها في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
يطول الكلام عن المقاومة هنا. الجميع، يمد سبابته، ليقول لك: "أنظر فلسطين هناك". في بلدة شبعا، يدلّك عضو البلدية، علي الخطيب، إلى موقع الرادار الإسرائيلي، وتكاد ترى عناصره إذا كان الطقس صافياً. تشعر أن عسكره يراقبون كل حركاته: "من هنا يُمكن رؤية بغداد، ولذلك يرفض الاسرائيليون التخلي عن هذه النقطة مع أنها أرضنا". بالقرب منها، تظهر نقطة مراقبة لقوات حفظ السلام في جنوب لبنان (اليونيفيل)، وخلفها بقليل، تظهر القوة الدولية لفض الاشتباك بين سورية واسرائيل (الأندوف).
للمنطقة سرّ لا يعرفه الكثيرون. لم تقترب الحرب الأهلية منها أبداً. تنوعها المذهبي والطائفي كبير، سنة وشيعة ومسيحيون ودروز. لم تُطلق النار يوماً هنا. حتى الحرب خلال الأعمال الطائفية، التي طالت بلاد الشام عام 1860، لم تصل إلى هنا.
لكن هذا يتعرض لنكسات متتالية منذ السابع من مايو/أيار 2008 (عندما نفذ حزب الله عملية عسكرية في بيروت). حينها، بدأ أهالي المناطق السنية بالحذر من حزب الله. تحوّل العمل العسكري للحزب في المنطقة إلى عمل أكثر من سري، بعدما كان مقاتلوه يتنقلون علناً قبل هذا التاريخ. للدلالة على قسوة المشهد المذهبي، انخفض عدد الأصوات، التي نالها مرشحو حزب الله في الانتخابات النيابية، من أكثر من ثمانين في المئة في انتخابات عام 2000، إلى ما يُقارب خمسة عشر في المئة عام 2009. الأرقام تتحدث. ثم جاءت الثورة السورية. استقبل اللاجئون في المنطقة، وفُتحت المنازل لهم، إذ لا مخيمات هنا. لكن الصراع السني ــ الدرزي بين بلدتي بيت جن وعرنة السوريتين، انتقل خوفاً إلى هنا. يرفض الجميع القول إن هناك انقساماً درزياً سنياً بين قرى العرقوب وراشيا: "الوضع ممتاز لكنه يحتاج إلى صيانة دائمة"، يقول وزير الصحة اللبناني، ونائب راشيا عن الحزب التقدمي الاشتراكي، وائل أبو فاعور.
قام الأخير بدور كبير، بالتنسيق مع النائب عن تيار المستقبل، بهية الحريري، وأحزاب المنطقة، في غياب أي دور لنائب العرقوب عن حزب البعث، قاسم هاشم. في المقابل، يشعر مسيحيو المنطقة، وصولاً إلى قضاء مرجعيون، بخوف من دخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). يُمكن تعميم هذا الخوف على كل أبناء المنطقة. "داعش" صار رعباً متنقلاً.
الخوف من عرسال ثانية
أبرز مثال على الخوف المنتشر، أن راعي ماعز قال إن مسلحاً ملتحياً هاجمه واستطاع الهرب منه في جبل الصنوبر. انتشر عشرات من عناصر الجيش اللبناني في المنطقة، التي أشار إليها الراعي، وبعد ساعات من البحث تبيّن أن المسلح المفترض هو صياد من المنطقة وهو ملتحٍ، ولم يقترب من الراعي، بل رفع له يده للسلام، فخاف الراعي وهرب.
يؤكّد رؤساء بلديات المنطقة، وعدد من فعالياتها، عدم وجود عناصر من تنظيم "داعش" في المنطقة. اصلاً عدد النازحين، هنا، يُعد الأقل مقارنة مع المناطق اللبنانية الأخرى. أكبر تجمّع لهم في بلدة شبعا، حيث يصل عددهم إلى أقل من عشرة آلاف، ولا يوجد مخيّم لهم. يؤكّد عضو بلدية شبعا واتحاد بلديات العرقوب، علي الخطيب، على هذا الأمر. ويُشير إلى أن البلدية بالتعاون مع استخبارات الجيش، نظمت عمليّة النزوح، بحيث يوجد لكل عائلة دفتر هوية، يُشير إلى عدد ابنائها، ومن يوجد في لبنان، وتاريخ دخولهم. ومنع اللاجئون أخيراً من التنقل بين سورية ولبنان. يشرح الخطيب الواقع جغرافياً: "تختلف الطبيعة الجغرافية هنا عن عرسال. الجبال عالية جداً وليست جرداء، ويوجد ممر طبيعي واحد هو وادي (جنعم) يربط بلدة بيت جن ومزارعها بشبعا، وهذا الممر يُسيطر عليه الجيش بشكلٍ كامل، إذ ينشر مقاتليه على طول الطريق، وهم يشرفون في الكامل على عملية الدخول وتنظيمها".
ويُشير الخطيب إلى انه في بيت جن لا يوجد "داعش" بل كتائب جيش حرّ، وربما مجموعة صغيرة لجبهة النصرة. لكن برأيه إن الخطر الوحيد، الذي يُمكن أن تتعرّض له المنطقة، يأتي من جهة ريف القنيطرة، الذي يرتبط بحدود مع بلدة شبعا. يُسيطر الجيش الاسرائيلي بالكامل على الحدود، "لكن من يعرف ماذا يوجد في العقل الاسرائيلي؟ يُمكن أن يفتح لهم طريق ويقوم بالضغط عليهم عسكرياً في الخلفيّة فيأتون صوب شبعا، لكن هذا الاحتمال ضعيف".
يتقاطع كلام الخطيب مع كلام مسؤول الجماعة الإسلاميّة في منطقة العرقوب، وسيم سويد. يُفترض أن الجماعة هي الأكثر حماساً لدعم الثورة السورية. يُكرر سويد، الذي يقيم في بلدة الهبارية، مراراً ذكر الأجهزة الأمنية في حديثه. التنسيق معها في أعلى المستويات كما يقول، "وكلما اشتبهت القوى الأمنية في أيٍّ من النازحين استدعته أو اعتقلته، من دون أية ردة فعل من أحد". يُشير سويد إلى أن الجماعة تُرسل مساعدات غذائية، أبرزها الطحين، إلى بيت جن ومزارعها بمعرفة وإشراف استخبارات الجيش اللبناني بهدف تخفيف النزوح عن المنطقة، ولا يُنكر هنا أن بعض هذه المساعدات قد يذهب إلى المقاتلين. وبحسب سويد، لا يتجاوز عدد اللاجئين في بلدات العرقوب الـ 2500 عائلة في الحد الأقصى.
لا ينفي سويد وجود حذر وخوف عند المسيحيين والدروز، "لكنه خوف موجود عند السنة أيضاً. لا أحد يُريد تكرار تجربة عرسال هنا، رغم الاختلاف الكبير في المعطيات". يؤكّد سويد أن التنسيق مع القوى السياسية في المنطقة يتجاوز الخلافات السياسية اللبنانية التقليدية بهدف الحفاظ على شبكة الأمان الاجتماعي.
يتكرر الكلام عينه في كفرشوبا وكفرحمام. الأولى استوعبت عدداً من اللاجئين، فيما لم تستوعب كفرحمام سوى بضع عائلات. يقول أحد المقاتلين الشيوعيين السابقين، إن الخوف موجود، "لكنني تنقلت مع اصدقاء لي في شبعا وكفرشوبا، ولم يبد وجود مسلّح للاجئين السوريين. يؤكد الرجل أن هذا الخوف يؤدي إلى أمن ذاتي خصوصاً في البلدة المسيحية راشيا الفخار، "لكنه أمن ذاتي غير منظم، وقد أبلغتهم أن ما يقومون به لا يفيد أبداً، وأنه إذا استدعت الحاجة وجود أمن ذاتي لكنت أول واحد بينهم". يطول شرح هذا الرجل عن العلاقة التاريخية بين المسيحيين والسنة في المنطقة، "وحتى توجد مصاهرة بين العائلات". وفي كفرشوبا قلة بين النازحين من الشباب، إذ يطلب رئيس البلدية من الشبان العودة إلى سورية والقتال لإسقاط النظام.
المشايخ الدروز: نحرّم حمل السلاح
تُتهم المناطق الدرزية، في راشيا الوادي، أن انتشار الأمن الذاتي فيها هو الأوسع. لا ينفي وكيل داخلية الحزب التقدمي الاشتراكي في راشيا، رباح القاضي، حصول هذا الأمر، بعد اشتباكات عرسال، لكنه يؤكّد ضبطه بشكلٍ واسع، "أبلغنا شبابنا بكلّ وضوح إننا لن نحمي أحداً أمام الأجهزة الأمنية في حال حمل السلاح".
الحادثة الأبرز في منطقة راشيا حصلت في بلدة عين عطا، عندما أطلق شبان النار على باص صغير ينقل ركاباً سوريين إلى المنطقة، مما أدى إلى مقتل شخص وجرح عدد منهم. تم تطويق الحادث سريعاً. ويجب الإشارة إلى أنه يُمنع دخول الأجانب (السوريين ضمناً) إلى راشيا والعرقوب من دون إذن رسمي من استخبارات الجيش، كون المنطقة جنوبي نهر الليطاني. وكان سائق الباص يسعى إلى تهريب هؤلاء السوريين.
وباستثناء هذا الحادث، لا يزال الوضع مضبوطاً بالكامل. حتى إن وجود ستة من العسكريين المخطوفين لدى جبهة "النصرة" منذ بداية شهر اغسطس/آب الماضي، من الدروز، لم يدفع أهلهم إلى ردات فعل تجاه السوريين، "لكن حادثة العبادية تركت بعض الخوف؛ لكنني أؤكّد أنه لم تحصل حالة سرقة واحدة في المنطقة وتبين تورّط السوريين فيها"، يقول القاضي. في العبادية، قتل شابان سورياً مواطناً من الطائفة الدرزية بهدف السرقة.
يؤكّد القاضي أن هناك أسباباً كثيرة، تمنع أن تكون منطقتا العرقوب وراشيا، عرسال ثانية أبرزها: الطبيعة الجغرافية، العلاقات التاريخية بين أبناء المنطقة، عدم وجود حد أدنى من بيئة حاضنة، وجود الجيش وتعزيز مراكزه بشكل كبير، والعلاقة بين أحزاب المنطقة.
ماذا عن الأمن الذاتي؟ يجزم القاضي بأن الحزب التقدمي الاشتراكي يرفض هذا الأمر بشكلٍ كامل، "وسيزور (النائب) وليد بيك (جنبلاط) المنطقة للتأكيد على هذا الأمر". يُشير القاضي إلى أنه عندما زار المرجعية الدينية الدرزية في المنطقة لشرح موقف جنبلاط الرافض حمل السلاح والأمن الذاتي، "فوجئت بموقف المشايخ الذين كانوا متقدمين علينا، إذ أعلنوا الحرم الديني على كلّ من يحمل السلاح"، خصوصاً وأن الجيش والأجهزة الامنية يتولون الحماية. ويقول القاضي إن موقف المشايخ ينطلق من ضرورة "إبقاء ما يجري في سورية داخل سورية، وعدم نقله إلى لبنان". وهو موقف جديد على المشايخ الدروز، الذين عُرفوا دائماً بالحماس للدفاع عن أبناء طائفتهم، "هم يثقون بالقيادة السياسيّة ولا يُريدون تدمير المنطقة على رؤوس أبنائها".
يقول عدد من أبناء المنطقة وأبناء حاصبيا إن موقف الوزير السابق، وئام وهاب (الحليف للنظام السوري) تطور بشكلٍ إيجابي في هذا المجال. ففي زيارة له إلى حاصبيا، الأسبوع الماضي، أكّد عدم نقل الصراع إلى لبنان، رغم أنه دعا الدروز سابقاً إلى الدفاع عن أنفسهم، بعدما قتل أربعة عناصر، أعلن وهاب أنهم ينتمون إلى حزبه، في اشتباكات بين بيت جن وعرنة.
أمن ذاتي مقنّع
يشير القاضي إلى أن التنسيق الكبير بين أحزاب المنطقة هو أبرز ما يحميها، ويُشير إلى التوافق بين الجميع مع وزارة الداخلية، على تعزيز شرطة البلدية في كلّ بلدة، وخلق فريق من المتطوعين بإدارة اتحاد البلديات ليتولوا الحراسة الليلية، "ولكن بإشراف وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية، ومنع هؤلاء العناصر من حمل السلاح وعدم إعطائهم الحق بتوقيف أحد". يرى القاضي أن هذا الحلّ هو الأكثر منطقية لتخفيف حالة الخوف ومنع الأمن الذاتي.
لكن من المسؤول عن هذه الشائعات الدائمة عن حصول أعمال أمنية في راشيا، وانتشار مسلحي "داعش" في العرقوب؟ لا يملك أحد جواباً شافياً، لكن القاضي يؤكّد وجود ماكينة سياسيّة تعمل في إطار بث الرعب والإشاعات. وتقول مصادر أمنية إنها تلاحق شابين يتبعان للنائب السابق، فيصل الداوود (من المقربين من النظام السوري) بعد أن أطلقا النار في جبل عليها، وأرسلوا إلى أهل البلدة أنهم يشتبكون مع مجموعة من "داعش". وبعد وصول عدد من الأهالي مع سلاحهم واستخبارات الجيش، تبين عدم حصول اشتباك بل مجرد إطلاق رصاص في الهواء.