انطلقت في تونس، يوم الثلاثاء، الجلسة الأولى لأخطر محاكمة تعرفها البلاد منذ الثورة. ثلاثون شاباً وجهت إليهم تهم مرتبطة باحتمال تورطهم في اغتيال الزعيم السياسي شكري بلعيد. هذا الاغتيال الذي هز التونسيين وفتح المجال أمام حرب لم تتهيأ لها البلاد ولم يتوقعها التونسيون بعد أن نجحوا في إزاحة الرئيس السابق بن علي .
كان التونسيون يتابعون عن بعد أخبار العمليات الإرهابية التي كانت تقع خارج حدود وطنهم، فإذا بهم يجدون أنفسهم وجها لوجه مع جماعات مستعدة للجوء إلى كل الوسائل بهدف منع الانتقال من الثورة إلى الدولة الديمقراطية، حتى لو كان الثمن هو الاغتيال.
جرى انتظار هذه المحاكمة بفارغ الصبر منذ أن اخترقت جسم شكري رصاصات الغدر في صبيحة 6 فبراير/ شباط، لكن السياق العام الذي انطلقت فيه أضفى على هذه المحاكمة الكثير من الحزن والضبابية، وبدل أن تكون مناسبة لطي صفحة مؤلمة من الضريبة القاسية التي دفعها التونسيون بسبب رغبتهم في الحرية، تحول الحدث إلى مناسبة إضافية لاستحضار الشياطين التي لا تزال مصرة على أن تطرد الأمل والاطمئنان من قلوب أبناء هذا البلد الجميل.
تنطلق هذه المحاكمة على إثر عملية إرهابية قاسية في حجم ضحاياها ومخلفاتها ودلالاتها، إذ إن الذين اغتالوا شكري بلعيد لم يتراجعوا عن إصرارهم على تهديد الكيان التونسي. ورغم الضربات القوية التي تلقوها خلال الفترة الماضية فإن ذلك لم يقلص كثيرا من خطرهم ولم يضع حدا لقدرتهم على الانتقام من تونس وأهلها.
لا تزال عملية سوسة الأخيرة تكشف عن خفايا شديدة التعقيد تؤكد بوضوح أن تونس دخلت حقيقة في حرب مخيفة ستستنزف أهلها وإمكاناتها المحدودة لمدة سنوات.
كما انطلقت هذه المحاكمة في ظل إصرار متواصل من قبل الجبهة الشعبية، وبخاصة من "حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد" ومن أسرة الشهيد بلعيد، فجميع هذه الأطراف متمسكة باتهام حركة النهضة بالوقوف وراء الاغتيال، كل التصريحات التي صدرت حتى اللحظة الراهنة يتفق أصحابها حول هذه المسألة.
وقد ذهب حزب "الوطنيين الديمقراطيين" في بيانه الأخير إلى حد التأكيد على أن "محاكمة قتلة شكري بلعيد حلقة من حلقات الجريمة"، كما اعتبر الأمين العام للحزب، زياد لخضر، أن "هناك توافقات سياسية من شأنها أن تعرقل سير ملف بلعيد وتواصل تعتيم طريق الكشف عن بقية الجناة الذين اتخذوا القرار السياسي المتمثل في تصفية شكري"، وذلك في إشارة إلى الائتلاف الحكومي الذي يجمع حركة "النهضة "وحزب "نداء تونس".
اقرأ أيضاً: محاكمة قتلة شكري بلعيد... الانتقال من الاتهام السياسي للقضاء
قادة الجبهة الشعبية متمسكون بالقول إن حركة "النهضة" متورطة في قرار التصفية، وإن الذين يحالون اليوم على القضاء ليسوا سوى منفذين لذلك القرار، ولهذا تصر الجبهة على ضرورة إحالة وزير الداخلية السابق علي العريض على القضاء بوصفه متهما، وأن قيادة حزب "نداء تونس" متواطئة مع "النهضة" لأسباب تتعلق بوجود مصالح مشتركة على حساب إخفاء الحقيقة أو طمس أجزاء هامة منها.
أما المتهمون فقد رفض معظمهم حضور الجلسة، وأصروا على البقاء في غرفة الحجز، وذلك احتجاجاً على منعهم من الاحتفاظ بلحاهم وقمصانهم. لكن ذلك لم يحل دون أن تكون جلسة المحاكمة استثنائية في تاريخ القضاء التونسي من حيث مكان انعقادها ( بهو قصر العدالة ) أو من حيث عدد الحاضرين الذين تجاوزوا المئات.
لقد طغت اليوم الجوانب الشكلية، لكن الجلسات المقبلة ستكون مثيرة، وقد تكشف عن خفايا هذا التنظيم الذي قرر أن يقض مضاجع التونسيين ويسحب منهم فرحتهم بثورتهم. إنها محاكمة تاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معان ودلالات. فالديمقراطية لا يمكن أن تستقر في بلد يعتمد فيه البعض على الاغتيال لتحقيق أهداف سياسية بوسائل غير سلمية. ولهذا بقدر ما ستكون هذه المحاكمة شفافة ومقنعة ومحترمة للحقوق والقانون بقدر ما أنها ستكون بمثابة التجربة المرجعية التي يمكن أن تعيد وحدة النخبة التونسية الممزقة. أما إذا فشلت في ذلك، فإن لعنة الدم ستبقى تلاحق الجميع.
اقرأ أيضاً: تونس: تأجيل محاكمة المتورطين باغتيال بلعيد وسط غياب معظمهم