"إلى شعب تونس العظيم، إلى أبناء شعبنا في المغرب العربي، نحن في تونس، في مغرب الأمة العربية، نحن جزء من هذه الأرض الطاهرة الممتدة من المحيط إلى الخليج، ونحن نفخر بأن أبطالاً منا سقطوا في ساحة المواجهة ضد الاستعماريين الفرنسيين. تعلمنا من آبائنا وأجدادنا أن تحقيق الانتصار على القوى الظالمة والباغية لا يمكن أن يكون إلا بلغة النضال والكفاح المسلح، وأن فلسطين هي مهبط الأديان، وهي أرض عربية، جزء من الأمة العربية. لقد عاث فيها الصهاينة فساداً وشرّدوا أهلها وارتكبوا فيها المجزرة تلو الأخرى. لقد عزمت وأنا تونسي، عربي، مقاتل في صفوف الثورة الفلسطينية، في صفوف الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة، على تأكيد أن همّ إخوتنا في مشرق الأمة، هو همنا جميعاً في مغربها، وأن وحدة التاريخ واللغة والمعتقد والدم هي وحدة متكاملة، وأن محاربة الصهاينة واجب قومي لا يفوقه أي واجب آخر...".
لم تكن هذه سوى وصية شهيد من شهداء تونس لأجل فلسطين، ميلود بن الناجح نومة، الذي استشهد في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، ونشرها المحلل نور الدين المباركي. فمنذ عام 1948 وحتى تاريخ استشهاد محمد الزواري في 15 ديسمبر/كانون الأول الحالي، سلسلة لم تنقطع أبداً على الرغم مما طرأ على التونسيين من هموم داخلية وتطورات سياسية دولية طيلة هذه الفترة. فلسطين ظلّت البوصلة التي توحّدهم رغم اختلافاتهم، ولعل ما حدث مع الزواري من تفاعلات شعبية وحزبية، أثبت أن كل الخلافات الأيديولوجية وحسابات الاصطفاف العربية الحالية، لم تحل دون التوحّد في تحديد العدو وإعلاء الشهيد، بعيداً عن التنابذ السياسي.
تاريخ تونس مع المقاومة الفلسطينية طويل جداً، بدأ منذ عام 1948 عندما سار تونسيون على الأقدام إلى ليبيا فمصر ثم فلسطين، دفاعاً عن الأرض. واستشهد منهم كثيرون بحسب الروايات، ثم في حرب 1973. وحقق هؤلاء نجاحات كبيرة وخالدة يرويها المصريون إلى اليوم. غير أن تغيّر شكل المقاومة للعدو، وتبدّل السياسات العربية تجاه القضية، لم يمنع التونسيين، كأفراد، من مواصلة نضالهم من أجل القضية، فانضموا إلى مختلف التشكيلات الفلسطينية، وشاركوا في معارك عدة.
ومن تلك المعارك، عملية "شهداء قبية"، التي تمكنت خلالها تشكيلة الشهيد الطيار الملازم الأول، أبوعمار أدهم، من اقتحام معسكر قيادة المنطقة الشمالية لجيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وأصيبت طائرة ميلود بن الناجح نومة، فاضطر للهبوط. وفي صباح اليوم التالي اشتبك مع قوات التمشيط الصهيونية المجوقلة، فأوقع عدداً من الإصابات بين قتيل وجريح قبل أن يستشهد.
وتبنّت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" العملية، وذكرت في بيانها في حينه أن "عملية شهداء قبية جسّدت تحولاً كان مطلوباً وسيبقى للإنهاء من حالة اليأس القومي والانتهاء من حالة الإذعان لسياسة الأمر الواقع الممارسة من واشنطن وتل أبيب ومن اليمين العربي والفلسطيني المستسلم. وجسدت العملية مشروعية تصعيد الصدام مع الإمبريالية والصهيونية على قاعدة أن الكفاح المسلح هو طريق أساسي ورئيسي لتحرير الأرض، وتحقيق الغلبة على المؤامرة الكبرى، التي تنفذها أميركا والعدو الصهيوني ضد شعبنا وأمتنا".
عدا عملية "شهداء قبية"، فإن هناك عملية "معالوت ترشيحا"، التي قادها الشهيد الملازم أول، عبد القادر المولوي الجندوبي. في ذلك الحين سيطرت إحدى مجموعات الجبهة الديمقراطية العاملة داخل الأرض المحتلة، في صباح 13 يناير/كانون الثاني 1979، على أحد المباني التابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في ترشيحا، وتمكنت الوحدة من احتجاز 230 رهينة من أفراد العدو، ثم قامت بإطلاق سراح أحد الرهائن، محملة إياه رسالة إلى القيادة الإسرائيلية، ورسالة إلى السفير الفرنسي وأخرى إلى السفير الروماني، وأربع رسائل إلى أهالي الرهائن.
إلا أن قيادة العدو الصهيوني، بدأت بحشد قواتها حول المبنى، وقامت بمحاولات لاقتحامه، ونجحت الوحدة في صد الهجوم وقتلت عددا من جنود العدو. ولكن القوات الصهيونية قامت بالهجوم على المبنى مستخدمة طائرات الهليكوبتر، وبعد مقاومة باسلة من الوحدة الفدائية، قامت بتفجير المبنى محملة القيادة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن الخسائر التي لحقت بالرهائن. وسقط الشهداء، أحمد علي حبايب (مناضل) من يافا ـ فلسطين، وعبد القادر المولوي الجندوبي (محمد علي) من تونس، وأحمد محمد غريب (عجاج) من صفد ـ فلسطين.
وبعد انطلاق الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993)، وفي مطلع عام 1988 بادرت قوات "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" إلى فرز قوة خاصة لإسناد ودعم الانتفاضة، وتنفيذ عمليات ضد قوات الاحتلال، وإعدادها للدخول إلى الأرض المحتلة. ونفذت العديد من العمليات في جنوب لبنان، وقامت بمحاولات عديدة لإدخال السلاح لأرض الوطن.
ومن أهم هذه العمليات، كانت عملية الانتقام من اغتيال القائد الشهيد أبو جهاد الوزير، التي نفذها أبطال "وحدة شهداء بيتنا نابلس"، بين مستعمرتي دان وشيراشوف في إصبع الجليل. واستشهد الملازم، حمد جودة أبو زرد، ابن نابلس، ومساعده عمران كيلاني مقدمي، من تونس، ومحمد أحمد جودة من نابلس ـ فلسطين، ونضال حسن أبوخميس من الناصرة المجيدل ـ فلسطين. وقتل فيها عدد من جنود الاحتلال، بينهم العقيد شموئيل أديف.
وفي 5 مارس/آذار 1993، أغارت مجموعة فدائية من "الجبهة الديمقراطية" على موقع متقدم لجيش الاحتلال الإسرائيلي على طريق باسيل في القطاع الغربي من جنوب لبنان، وتمكنت من إصابة كافة أفراد الموقع بين قتيل وجريح، ودمرت تجهيزاته وآلياته العسكرية في الموقع. وبعد ذلك اشتبكت مع قوة مشتركة إسرائيلية لحدية قرب بلدة شيحين في منطقة الصالحاني، واستخدم جيش الاحتلال الدبابات والرشاشات والطائرات. استشهد خمسة فدائيين، من بينهم الشهيد مصطفى الماجري من تونس.
في ديسمبر/كانون الأول 1988، في لبنان، استشهد خالد بن صالح الجلاصي في عملية بمنطقة المنارة بالجليل الأعلى شمال فلسطين، وبعدها في نوفمبر/تشرين الثاني 1990، استشهد التونسي مقداد الخليفي، خلال عملية فدائية ضد دورية صهيونية في مزارع شبعا. وفي ديسمبر/كانون الأول 1992، استشهد عمر قطاط بجنوب لبنان، عندما كان يقوم بالإمداد بالمؤونة للمبعدين من فلسطين في مرج الزهور. وفي يوليو/تموز 1993 استشهد البطل فيصل الحشايشي، إثر مشاركته في عملية فدائية ضد دورية صهيونية جنوب لبنان على مشارف فلسطين. واستشهد سامي بن الطاهر الحاج علي، في 19 يناير/كانون الثاني 1995 بعد تعرضه لقافلة صهيونية على الطريق الواقعة بين بلدة الطيبة اللبنانية ومستوطنة "مسكاف عام" بفلسطين المحتلة. كما سقط شهداء آخرون كرياض بن الهاشمي وكمال البدري وبليغ بن محمد أنور اللجمي ومحمد نذير أحمد الدويري، وغيرهم كثر.
كما استقبل التونسيون الفلسطينيين بعد إخراجهم من لبنان، لكن الردّ الاسرائيلي لم يتأخر، وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1985 شنت طائرات صهيونية غارة عنيفة على مقر الرئيس، ياسر عرفات، في ضاحية حمام الشط التونسية، بغاية استهدافه شخصياً في ما يعرف بعملية "الساق الخشبية". وأسفرت الغارة عن مذبحة حقيقية سقط خلالها نحو 60 شهيداً بين فلسطيني وتونسي إلى جانب أكثر من 100 جريح. وتم تدمير مقر الرئيس الراحل، ياسر عرفات، الذي نجا من الموت بأعجوبة.
ولكن الرئيس الحبيب بورقيبة تمكن، للمرة الأولى، من إدانة إسرائيل في مجلس الأمن، بعد أن هدد الولايات المتحدة بقطع العلاقات إذا استخدمت حق النقض (الفيتو)، وكان الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، يقود الدبلوماسية التونسية وقتها.
وبعد الثورة التونسية (2011)، خرجت تونس لنصرة غزة، وتبرع الآلاف بالدماء وغيره. وخرجت تظاهرات صاخبة في كل أنحاء البلاد نصرة لغزة المحاصرة. واستقبل الرئيس التونسي السابق، منصف المرزوقي، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، خالد مشعل، في قصر قرطاج، مما اعتبر خطوة سياسية لافتة لكسر الحصار على الحركة سياسياً، بل ذهب أكثر من ذلك حين شارك في قافلة الحرية البحرية، التي كانت تحاول كسر الحصار على غزة، وتم إيقافه وترحيله من قبل جيش العدو. وجاء اغتيال الزواري، ليزيد التونسيين فخراً، خصوصاً بعد التلميحات إلى دوره في الحرب مع المحتل، ولكنه استشهاد يطرح أسئلة أمنية وسياسية، سيكون على الحكومة أن تواجهها، تحت ضغط الشارع.