وبدأت هذه الاحتجاجات بخروج ثلّة من الشبان ليلة الثامن والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2016 احتجاجاً على مقتل بائع للسمك يدعى محسن فكري مسحوقاً داخل شاحنة للقمامة كان قد صعد إليها لاسترداد بضاعته المصادرة من طرف السلطات المحلية. ونظّم الشباب وقتها وقفة احتجاجية على مصرع فكري، كان من بينهم ناشط مغمور حينها قبل أن يصعد نجمه بقوة بعد ذلك، هو ناصر الزفزافي، ما اضطر محافظ الإقليم ومسؤولاً قضائياً بارزاً إلى النزول للشارع من أجل التفاوض مع الشبان الغاضبين.
ومنذ تلك الليلة عمّت الاحتجاجات مدينة الحسيمة ومناطق مجاورة لها في الريف المغربي، لتتحوّل من مطلب محاكمة المتسبّبين الحقيقيين في مصرع بائع السمك، إلى مطالب أكبر وأشمل، تتضمّن رفع التهميش وما يسمى العسكرة الأمنية عن الحسيمة، وتنفيذ مشاريع تنموية في مجالات التعليم والصحة والتشغيل.
عرفت الاحتجاجات، لا سيما في الحسيمة، زخماً بشرياً لشهور عدة، شملت تظاهرات شهدت مواجهات بين المحتجين وقوات الأمن، انتهت باعتقال العشرات من الناشطين أبرزهم الزفزافي، قبل أن تخف حدة هذه الاحتجاجات، ويبقى التركيز على محاكمات معتقلي الريف. وهو ما يسمح بتسجيل عدد من الملاحظات.
عوامل زخم "حراك الريف"
اللافت في "حراك الريف" في المغرب أنه استمر شهوراً طويلة، بدأ باحتجاج بسيط وتحوّل إلى احتجاجات متفرّقة، قبل أن يتطوّر إلى حركة احتجاجية شبه منظّمة من طرف ناشطي الريف، ليخمد قليلاً خصوصاً بعد اعتقال قادة الحراك ومحاكمتهم.
ويمكن نسب الزخم الكبير لهذا الحراك الذي لم يسبق للمغرب أن شهده، حتى إبان ظهور حركة 20 فبراير أيام الربيع العربي، إلى عوامل رئيسية عدة، أوّلها أنه يمثل احتجاجات شعبية عفوية انطلقت بسبب حادثة اهتزت لها قلوب المغاربة، وهي حادثة طحن بائع سمك شاب يعيل أسرته.
العامل الثاني يرتبط بطبيعة المطالب المرفوعة، والتي يجد أغلب سكّان الريف أنفسهم فيها، كمطلب الشغل للشباب العاطل عن العمل، وإنشاء مستشفى جامعي كبير للمرضى، وآخر خاص بمرض السرطان المتفشي في الريف جراء مخلّفات حرب الغازات السامة التي سبق للجيش الإسباني أن استهدف بها مناطق الريف أيام الاستعمار الإسباني لشمال المملكة.
أما العامل الثالث لتواصل الحراك مدة زمنية طويلة، فيعود إلى أن الاحتجاجات اتسمت في معظمها بالطابع السلمي بعيداً عن العنف، إلاّ في حالات نادرة تمّ التعاطي معها أمنياً حينها.
وهناك سبب رابع يفسّر زخم الحراك في الريف، يتعلق بأنه يكن له قادة وزعماء محدّدون، على الرغم من بروز أسماء ناشطين أكثر من غيرهم، مثل ناصر الزفزافي ومحمد أمحجيق والفنانة الشابة سليمة الزياني ومحمد جلول وآخرين. وبالتالي كان المحتجون يرون أنفسهم قادة للحراك، خصوصاً في عدم تسييس الاحتجاجات ولا "سرقتها" من طرف أي تيار حزبي أو سياسي.
الثوابت في مسار الحراك
من العناصر "الثابتة" في مسار الحراك بعد مرور عام على انطلاقه، أن أزمة الريف ما زالت تراوح مكانها، من دون تحقيق تقدّم ملحوظ في مسار حلحلة هذا الملف الساخن.
ويستمر الاحتقان في الريف على الرغم من خفوت تنظيم الاحتجاجات في الحسيمة، بسبب اعتقال أبرز ناشطي المنطقة، والحكم على آخرين بالسجن لفترات متفاوتة، فضلاً عن عامل الزمن، والأمل في أن تستجيب الدولة لمطلب إطلاق سراح المعتقلين.
العنصر الثاني الذي لم يتحوّل في هذه الأزمة هو استمرار "المقاربة الأمنية" في معالجة الاحتقان في الريف، من خلال الملاحقات الأمنية والقضائية ضدّ عدد من الناشطين.
أما العنصر الثالث "الثابت" في الأزمة، فيكمن في استمرار وجود عدد من الناشطين الشباب أبناء الريف في السجون، وخوضهم أشكالاً عدة من الاحتجاجات كالإضراب عن الطعام الأمر الذي بات يهدد صحة بعض المعتقلين.
يبقى أن المستجد الوحيد الذي اخترق وضعية المعتقلين في السجون هو قرار المضربين منهم عن الطعام تعليق معركة "الأمعاء الخاوية"، لإبداء حسن نيتهم وتجاوبهم مع قرار العاهل المغربي محمد السادس الأخيرة بإعفاء وزراء ومسؤولين ثبت تورّطهم في تأخّر تنفيذ مشاريع تنمية الحسيمة، السبب الذي كان أحد عوامل خروج المحتجين إلى الشوارع.
التحوّلات في مسار الأزمة
بخلاف المعطيات الثابتة التي لم تتغيّر في أزمة الريف بعد مرور عام على اندلاعها، هناك أمور اعترتها تحوّلات رآها البعض تسير في طريق الانفراج، أوّلها أنّ الحراك ألقى حجرة في الماء الراكد للحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، وهو ما يمكن اعتباره أكبر التحوّلات في هذا الملف الساخن.
ثاني هذه التحوّلات تمثّل في تفاعل المؤسسة الملكية مع أحداث الحسيمة، إذ عبّرت عن غضبها وانزعاجها من تعثّر تنفيذ مشروع "الحسيمة منارة المتوسط" الذي انطلق في 2015، في موعده المحدد، وهو ما كان أحد أسباب تفاقم الاحتجاجات في المدينة الساحلية.
وترجم العاهل المغربي غضبه من تهاون مسؤولين ومنتخبين في تنفيذ مشاريع الحسيمة على أرض الواقع، من خلال خطابات متتالية اتهم فيها سياسيين بالتقصير والعمل لمصالحهم الشخصية عوض العمل على حلّ مشكلات المواطنين.
ومن آخر ارتدادات الغضب الملكي، الذي ظهر بسبب احتقان الأوضاع في الحسيمة، إلى حدّ توقّع مراقبين أنه قد يتحوّل إلى "ربيع مغربي جديد" يهدّد استقرار المملكة، قرار الملك إعفاء عدد من الوزراء ممن لهم علاقة بتأخّر تنفيذ مشروع الحسيمة، وهو ما يمكن اعتباره منعطفاً لافتاً وحاسماً في أزمة الريف بعد مرور عام على اندلاع الاحتجاجات فيها.
أما ثالث التحوّلات، فيتمثّل في مواقف الحكومة التي أظهرت تغيّراً كبيراً حيال الأزمة. فبعد أن اتخذت أحزاب الأغلبية الحكومية موقفاً يتهم محتجي الريف بأنهم انفصاليون ويهددون أمن البلاد، وبأنهم يخدمون أجندات خارجية، عادت الحكومة لتقدّم "اعتذاراً" عمّا بدر من قادة أحزابها، وانتهجت استراتيجية مخالفة تجاه الملف.
وبدأت حكومة سعد الدين العثماني، بعد تعرّضها لوابل من الانتقادات بسبب صمتها في البداية واتهامها للناشطين بالانفصال بعد ذلك، في التحرّك نحو منطقة الحسيمة، من خلال إيفاد وزراء إلى المنطقة للتواصل مع السكان، ثمّ من خلال تسريع وتيرة الأعمال حتى يتمّ إنجازها في وقتها المحدد.