تكلل التصعيد العسكري من قبل جماعة "أنصار الله" (الحوثيون) في اليمن ضد السعودية والتحالف الذي تقوده، صاروخياً وبراً وبحراً، بمبادرة مثيرة، تدعو الرياض إلى هدنة، يجري التوقيع عليها في بيت الله الحرام بمكة المكرمة، في تطور يثير تساؤلات عما إذا كان ذلك سيعود بالأزمة اليمنية إلى المفاوضات الحوثية- السعودية، كما حصل عام 2016، ومن جهة أخرى تمثل انقلاباً مبدئياً على المجلس الذي تأسس بالمناصفة بين الجماعة وحزب المؤتمر برئاسة الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح.
وكان الحوثيون، وفي تحول مفاجئ، قد أعلنوا، مساء الأحد، مبادرة على لسان رئيس ما يُعرف بـ"اللجنة الثورية العليا"، محمد علي الحوثي، أحد القادة الكبار في الجماعة، والذي نشر المبادرة على صفحته الشخصية بموقع "فيسبوك"، وبعد أن جعل من "الحج" مدخلاً لإعلانه المثير، إذ قال إنه "بهذه المناسبة، ولحرمة الحج وقداسة الأشهر الحرم، وتحريم القتال فيه إلا لدفع العدوان، أدعو المملكة العربية السعودية للتوقيع على هدنة فعلية في البيت الحرام"، وهو ما يعتبره البعض دعوة ضمنية لاتفاق "هدنة" ترعاه السعودية.
وأضاف الحوثي أن الهدنة التي يدعون إليها يلتزم خلالها "الجميع، في كل محاور القتال والمواجهات العسكرية، بعدم القتال وفك الحصار والسماح للحجاج اليمنيين بالحج حتى تنتهي هذه الأشهر، إكراما لهذه الأشهر وتعظيما لها بما عظّمها الله"، في سياق بدا من الواضح اختيار الحوثيين لمسألة متعلقة بالشعائر الدينية كمبرر لدعوته.
ومضى الحوثي قائلاً إنه "حتى يثبت النظام السعودي أنه ليس عدوانيا، وأنه ليس داعماً للإرهاب، وأنه يعمل على محاربته، فهذه خطوة لبداية الطريق؛ ندعوه إلى المبادرة بها، فهي تأتي في إطار القبول بالآخر الذي لا يحمل الفكر الذي يقوم النظام بتدريسه، ويعمل الآن على فتح مركز لمحاربته، كما أعلن عن ذلك في القمة المنعقدة في الرياض قبل أشهر".
وختم المتحدث مبادرته بالقول إنه "ما لم (يقبل الجانب السعودي) فنحن نحمل هذا النظام تبعات المنع ومسؤوليته، كما نحملهم مسؤولية العدوان والحصار والمنع، وما يترتب عليه من مجاعة وأوبئة وغيرها".
وتحمل هذه الدعوة المثيرة في طياتها الكثير من الدلالات والرسائل، وفي مقدمتها التحول المفاجئ من لهجة التصعيد العسكري، بدأت بإطلاق صاروخ غير مسبوق من حيث المدى، باتجاه ينبع السعودية، ثم القصف بعدة صواريخ بالستية باتجاه قاعدة جوية في الطائف (اعتبره التحالف استهدافاً لمكة)، بالإضافة إلى التصعيد العسكري حدودياً، وإعلان السيطرة على مواقع عسكرية بالحدود، والتصعيد بحراً باستهداف ميناء المخا، الذي تسيطر عليه القوات الإماراتية بقارب مفخخ، والتحذير من "تحويل البحر الأحمر إلى ساحة الحرب"، وكل ذلك خلال أيام، وحتى الأحد. وأفادت مصادر يمنية متعددة لـ"العربي الجديد" بأن التصعيد العسكري للحوثيين تراجع نسبياً منذ مساء الأحد، على الرغم من استمرار الغارات الجوية في العديد من المحافظات، بما فيها محافظة صعدة، معقل الحوثيين.
وعلى نحو مفاجئ، تحوّل التصعيد إلى مبادرة تدعو السعودية إلى "هدنة"، وهو ما دفع بعض المحللين والمتابعين اليمنيين إلى اعتبار أن التصعيد العسكري الذي سبق الدعوة للهدنة كان في أحد أهدافه التمهيد لها، بحيث تبدو وكأنها جاءت من موضع قوة، وقد حملت لهجة أقل حدة تجاه الرياض، ومن أبرز ما تضمنته الإشارة إلى أن التوقيع على "الهدنة" يجري في البيت الحرام، إشارة إلى قبول الحوثيين بالعودة إلى مفاوضات مباشرة مع السعودية وتحت رعايتها.
وبهذا تعود للأذهان مشاورات الكويت التي انعقدت لثلاثة أشهر، العام الماضي، وجرى الحديث خلالها عن مقترح أن يكون التوقيع على الاتفاق، الذي يتم التوصل إليه، في مكة المكرمة.
وعلى الرغم من أن الحوثيين حاولوا إبعاد الصيغة الرسمية من الدعوة/ المبادرة، بجعلها صادرة عن رئيس "اللجنة الثورية"، وليس عن المتحدث الرسمي باسم الجماعة، محمد عبدالسلام، إلا أن الرسالة منها كانت واضحة، وقد تناولت قناة "المسيرة" الفضائية التابعة للجماعة خبراً عنها، باعتباره دعوة للسماح لليمنيين بالحج، ولم تبرز الدعوة في عنوانها على الموقع، بقدر ما تناولته في هذا السياق.
وكان لافتاً مجيء الدعوة الحوثية بعد ساعات من تصريحات مثيرة أطلقها السفير الأميركي في اليمن، ماثيو تولر، بالدعوة للعودة إلى مفاوضات السلام، وانتقاد موقف الحوثيين المعارض لمبادرة المبعوث الأممي، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، بخصوص "ميناء الحديدة"، مع حديث السفير عن إشارات إيجابية من حزب صالح بالتعامل مع المبادرة الخاصة بالحديدة، والتصريح الأخير بشأن حدة التوتر بين الحوثيين وحزب صالح بالهجوم الضمني على الحزب، حيث نشرت قناة "المسيرة" الحوثية خبراً بعنوان: "تحركات أميركية مريبة وطرف محسوب على القوى الوطنية يتماهى معها".
وفي السياق نفسه، تعد المبادرة الحوثية ودعوة السعودية إلى هدنة بمثابة مسمار جديد في نعش التحالف الهش بين الحوثيين وحزب صالح، لعدة اعتبارات، أبرزها صدور الدعوة عما يسمى بـ"اللجنة الثورية العليا"، التي كانت واجهة سلطة الحوثيين العليا في صنعاء، ويفترض أنها انتهت بالاتفاق الذي وقعه شريكا الانقلاب العام الماضي، وقضى بتشكيل "مجلس سياسي أعلى"، مؤلف بالمناصفة بين الطرفين يتولى إدارة البلاد، ثم على ضوئه جرى تشكيل حكومة انقلابية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
وجاءت المبادرة الحوثية لتهمش "المجلس السياسي" و"الحكومة"، وتتعدى مسألة الدعوة إلى هدنة إلى اقتراح توقيعها في "البيت الحرام"، وتحذير الجانب السعودي من عدم التجاوب معها، وكل ذلك يعني تجاوز المجلس الذي يشكل واجهة تحالف الطرفين، بالإضافة إلى أنها صادرة من طرف واحد، إن لم يكن بتنسيق غير معلن بينهما، ضمن تبادل الأدوار، وهو احتمال أضعف بالمقارنة بمؤشرات الخلاف.
وفي هذا السياق، تبدو المبادرة الحوثية، في أحد زواياها، بمثابة خطوة ترد على المبادرة التي أطلقها البرلمان المحسوب على حزب صالح، وتعرضت لنقد لاذع من قبل الحوثيين، إلى حد خرج المتحدث باسم القوات الموالية للحوثيين، شرف لقمان، يصرح لقناة "المسيرة" الفضائية بأن إطلاق الصواريخ تجاه السعودية كان له رسائل، بينها الرد على المبادرات التي تطلقها أطراف سياسية، إشارة إلى البرلمان.
ومن شأن المبادرة الحوثية، وقبلها مبادرة البرلمان المحسوب على حزب صالح، أن تمثلا واحدة من أبرز مؤشرات تفكك التحالف الذي جمعته الأهداف المؤقتة، وكان من أهم ما حافظ على بقائه العامين الماضيين تعرضه لحملة جوية تستهدف الطرفين، اللذين حاولا التهدئة أمام خلافات إدارية واسعة تصاعدت الشهور الماضية، في مؤسسات الدولة بصنعاء، غير أن وصول الأمر إلى دعوة لترتيبات سياسية من قبل طرف دون الرجوع للآخر يمثل تطوراً هاماً على صعيد الخلافات، ما لم تنجح القيادات من الطرفين في احتوائه في الفترة المقبلة، كما حصل العام الماضي، بعد أن فتح الحوثيون في مارس/آذار2016 خطوط تفاهمات مباشرة مع السعودية، كانت محل تحفظ من حزب صالح.
وبين رسالة الحوثيين بـ"هدنة" مع السعودية، والتي لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت ستلقى قبولاً أو تعاملاً إيجابياً على الأقل، من الجانب السعودي، يعيد التفاهمات مع الجماعة، وبين الخلافات المتوقع أن تتصاعد بين الحوثيين وحزب صالح، على إثر هذه الدعوة، تبدو الأيام والأسابيع القادمة حُبلى بالكثير من الإجابات، التي سيكون لها ما بعدها بالتأثير على مسار الحرب والسلام في اليمن.