لم يكن ينقص الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو سوى أن تدلي الكنيسة الكاثوليكية بدلوها في حربه مع المعارضة، وذلك على وقع الانتقادات الداخلية والخارجية التي تحاصره. صحيح أن الكنيسة في فنزويلا ضعيفة قياساً بنفوذها في كولومبيا المجاورة، إلا أنها المرة الأولى التي ترفع فيها سقف التحدّي ضد السلطة، بعد سنوات من المهادنة القسرية، وبعد عهدٍ من الحدّ الأدنى من التعاون مع الرئيس الراحل، هوغو تشافيز.
يوم الجمعة كان رئيس المؤتمر الأسقفي الفنزويلي، دييغو بادرون، يهاجم حكومة مادورو، واصفاً إياها بأنها "ديكتاتورية"، معتبراً في حديثٍ مع الصحافيين أن "تلك الديكتاتورية سيتم تعزيزها مع انتخاب جمعية تأسيسية في 30 يوليو/ تموز الحالي". وأضاف أن "هذه الجمعية المتوقع انتخابها أواخر يوليو/ تموز ستفرض بالقوة، والنتيجة سيتم إدراجها في دستور دكتاتورية عسكرية اشتراكية ماركسية وشيوعية"، وفق تعبيره. وبالنسبة للكنيسة فإن "الجمعية التأسيسية ستسمح للحكومة الحالية بالبقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى وإلغاء جميع السلطات مثل الجمعية الوطنية (البرلمان)"، المؤسسة الوحيدة التي تسيطر عليها المعارضة من يمين الوسط.
وأسّس كلام بادرون لواقعين: الواقع الأول هو تثبيت الانقسام الكنسي مع الحكم في كاراكاس، خصوصاً مع السماح للمعارضة باستخدام كل المباني العائدة للكنيسة، باستثناء أماكن العبادة، في الاستفتاء الذي تريد تنظيمه في 16 يوليو/ تموز حول مشروع الجمعية التأسيسية. وهو ما يعني أنه في حال رفض غالبية المستفتين للجمعية، وهذا مرجّح، فإن الكنيسة ستكون مشاركة بشكل أساسي في تزخيم الصراع ضد مادورو، لا بل ستقوده، بعد سنوات من التشتت السياسي لأطراف المعارضة.
الواقع الثاني، هو أن الكنيسة اتخذت مساراً مناوئاً بشكل رسمي لمادورو، بعد تأديتها دور الوسيط في حواره مع المعارضة في أواخر العام الماضي، برعاية الفاتيكان.
وعلى وقع سقوط أكثر من 91 قتيلاً حتى الآن في مواجهات بين الشرطة والمعارضين منذ نحو 3 أشهر، تبدو فنزويلا أمام شهر هو الأكثر حسماً في تاريخ جمهورية مادورو. مسار الأمور سيعتمد على مدى قدرة المعارضة على التحشيد بشكل كامل، انطلاقاً من استفتائها الخاص في 16 يوليو/ تموز. مع العلم أن المعارضة تلقى تأييداً من المدعي العام في فنزويلا، لويزا أورتيغا، والتي كانت محسوبة على مادورو، ودعت مطلع الأسبوع الحالي البرلمان إلى "النضال من أجل الديمقرطية"، مؤكدةً على ضرورة التنديد بالعنف مهما كان مصدره. وقالت أورتيغا التي كانت في تيار تشافيز وانضمت إلى المعارضة "فلنناضل من أجل الديمقرطية. ليست هناك مشكلة إذا كانوا يفكرون في شكل مختلف عنا، علينا التنديد بالعنف مهما كان مصدره"، على حد تعبيرها.
مادورو رفض الاستسلام أمام "غدر" أورتيغا، ما دفع بأجهزته القضائية إلى دعوتها للمثول أمام المحكمة العليا، والتي ستقرر في شأن بدء محاكمتها، وذلك بحجة "إجراء عملية تدقيق مالية في وزارة العدل لرصد تجاوزات إدارية أو مالية محتملة". رفضت أورتيغا الانصياع للقرار، وقالت خلال كلمة ألقتها في مقر وزارة العدل "لن أرضخ لهذه المحكمة غير الدستورية وغير الشرعية".
الفوضى التي تعيشها كراكاس لا تقتصر على الشارع والقضاء، بل تخطتها إلى الجيش، مع تحليق الطيار أوسكار بيريز، في 27 يونيو/ حزيران الماضي، فوق كراكاس بمروحية للشرطة، مسقطاً 4 قنابل على المحكمة العليا، ومطلقاً النار على وزارة الداخلية. ولم تؤدّ تلك الأعمال إلى سقوط إصابات. لكن بيريز عاد وظهر في فيديو على "يوتيوب" داعياً الفنزويليين إلى "الثبات في الشوارع".
الأبرز وسط تلك التطورات المتصاعدة هو دور الكنيسة. صحيح أن اليسار اللاتيني تراجع، من الأرجنتين إلى كولومبيا، مروراً بالبرازيل، إلا أنه لم يصل إلى الحدّ الذي باتت فيه الكنيسة في صلب المواجهة المباشرة مع السلطات، كما هو الحال في فنزويلا. وهو أمر لم يحصل منذ أكثر أيام السلفادور ضجيجاً، يوم قُتل أحد روّاد "لاهوت التحرير"، الأسقف أوسكار روميرو، على يد "كتائب الموت" التابعة للحكم السلفادوري، في عام 1980.
بالتالي فإن الأسقف بادرون بات يتحوّل إلى رمز للمعارضة الفنزويلية، مع ما يعنيه ذلك من تكريس لواقعين: الأول، تطور دور الكنيسة في الوضع السياسي المستقبلي في فنزويلا. الأمر الثاني، هو الدعم الذي تستحوذ عليه هذه الكنيسة، في ظلّ وجود بابا لاتيني في الفاتيكان (الأرجنتيني فرنسيس)، وإمكانية توسيع مروحة تعزيز نفوذها السياسي في مختلف بلدان القارة الأميركية الجنوبية.