يعمل النظام السوري على استغلال ظروف المهجرين والنازحين السوريين داخل البلاد وخارجها من أجل ابتزازهم، ودفعهم للانخراط في صفوف قواته ومليشياته المقاتلة، مقابل السماح لهم بالعودة الى منازلهم ومناطقهم، وعقد "تسوية" معهم يكونون فيها الطرف "النادم والتائب" والمستعد لدفع ثمن العودة إلى "حضن الوطن" مقابل "الدولة" التي تعفو عن المخطئين، من دون أن يترتب عليها أية التزامات قانونية أو أخلاقية. وفي هذا السياق، جرت معظم "التسويات والمصالحات" بين النظام وأهالي المناطق التي ثارت عليه، ودفع أبناء تلك المناطق الذين عانوا الويلات من قتل وتهجير وملاحقة، خلال السنوات الماضية، الثمن مجدداً عبر إجبارهم على الالتحاق بقوات النظام، والقتال في صفوفها حتى الموت غالباً، مقابل "الصفح عنهم"، من دون أية ضمانات بشأن مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم.
في هذا الإطار، ذكرت وسائل إعلامية تابعة لحكومة النظام أن "النظام افتتح مركزين في مدينة حمص لاستقبال المطلوبين للخدمتين الإلزامية والاحتياطية والمتخلفين عن الخدمة العسكرية، وتمّ استقطاب ما يزيد عن 500 شاب ورجل، بعضهم كانوا في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في الريف الشمالي لحمص مثل تلبيسة والرستن. وتمّ تشكيل لجان مختصة من جميع الأفرع الأمنية لتسهل عملية التسوية في المراكز المخصصة".
وأوضحت الوسائل الإعلامية أن "المركز الأول وهو مركز الحسن بن الهيثم للتدريب الجامعي على طريق تدمر، أما المركز الثاني فهو في ريف حمص الشرقي بمنطقة الفرقلس، وذلك من أجل إجراء عملية التسوية للمتقدمين وإخضاعهم لدورة تدريبية، يتم بعدها توزيعهم على التشكيلات العسكرية في المنطقة الوسطى"، متوقعة "ارتفاع أعداد الذين سيقومون بتسوية أوضاعهم خلال الفترة المقبلة".
كما أثار تسجيل صوتي منسوب لـ"الشيخ" نواف البشير، شيخ عشيرة البكارة، العائد قبل عام إلى حضن النظام، بعد أن مكث فترة في صفوف المعارضة، مخاوف من حملة يقوم بها النظام لاستقطاب أبناء دير الزور في المنطقة الشرقية وزجهم في قواته ومليشياته، مقابل إغراءات تقدم لهم مثل السماح بعودتهم لمناطقهم وتقديم رواتب لهم.
وقال البشير في التسجيل إنه "سوف يسافر إلى لبنان لإقناع شباب عشيرته والعشائر الأخرى في المنطقة الشرقية من أجل العودة إلى سورية والالتحاق بقوات النظام". وأبلغ البشير قريبه في لبنان الذي تحدث معه هاتفياً أنه "يريد أن يعود بنحو 500 شاب إلى دير الزور"، عبر صفقة وصفها بـ"الفرصة الأخيرة وتتضمن العفو عنهم وتقديم ضمانات ورواتب لهم مقابل التحاقهم بفيلق العشائر، التابع للحرس الجمهوري".
وفي تعليقه على هذا الأمر، قال عضو المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، الشيخ راكان الخضر، في تصريح لتلفزيون "أورينت" إنه "لا يمكن لأبناء العشيرة الوثوق بنواف البشير المتقلب في المواقف، والعامل حالياً في خدمة أجهزة الاستخبارات". وأضاف أن "بعض النفوس الضعيفة من مدعي المشيخة أمثال البشير ليس لهم رصيد لدى أبناء العشائر"، لافتاً إلى أن "أبناء العشائر عقدوا أخيراً مؤتمراً في تركيا، ضمّ نحو 100 عشيرة عربية وتركمانية وكردية، من أجل سحب البساط من تحت عملاء الاستخبارات". وحذّر أبناء العشائر من "الانخداع بدعاويهم فهم لا يمثلون سوى أنفسهم".
وأوضح الخضر أن "عشيرة البقارة أصدرت بيانات عدة، تتبرأ فيها من البشير"، منوهاً إلى "وجود معلومات أن الرجل بات مسلوب الإرادة، ويعمل تحت أمرة أجهزة الاستخبارات، محاولاً التقرب من النظام على حساب الناس الذين يدفعهم إلى التهلكة في سبيل طموحاته"، مؤكداً أن "الموالين له في لبنان لا يزيد عددهم عن 20 شخصاً". والوضع غير مختلف في جنوب دمشق، الذي بات مقلقاً ومتوتراً إثر قيام قوات النظام بإغلاق المعبر الوحيد لدخول البضائع إلى المنطقة التي عقدت بعض بلداتها مصالحة مع النظام منذ سنوات، وذلك على خلفية ملاحقة فصائل المعارضة هناك لأنصار مسؤولي المصالحة مع النظام الذين باتوا في الآونة الاخيرة عاملين بشكل علني على دفع الشبان في المنطقة إلى الالتحاق بقوات النظام".
وجاء إغلاق المعبر على خلفية اعتقال أنصار الشيخ المقرب من النظام أنس الطويل، الذين أطلقوا الرصاص بشكل عشوائي يوم الاثنين الماضي، أسفر عن مقتل شخصين وجرح ثلاثة آخرين، ما دفع فصائل المعارضة للقيام بحملة ملاحقة واعتقالات ضدهم، كما أصدرت قراراً بمنع الطويل من دخول المنطقة بشكل نهائي.
وأفادت مصادر محلية لـ"العربي الجديد" بأن "المشكلة بدأت منذ أيام على خلفية اجتماع نظمه رجل الدين أنس الطويل، بهدف إقناع الشبان في منطقة ببيلا ممن تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 40 عاماً، بتسليم أنفسهم لقوات النظام والانخراط في صفوفها". كما عقد الطويل اجتماعاً قبل نحو أسبوع مع مئات الشباب في أحد مساجد المنطقة، حثهم فيه على "المصالحة" مع النظام، و"تسوية أوضاع" المنشقين والمتخلفين عن الخدمة، فيما وزع أنصاره استبياناً لمعرفة رأي شباب البلدات الثلاث بـ"المصالحة" و"التسوية". ودعا الاستبيان إلى تحديد مصير المنشقين ورافضي الخدمة في صفوف قوات النظام، وحدد لهم موعداً لتسليم أنفسهم.
وأضافت المصادر أن "الطويل الذي خرج يوم الأحد 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي، للاجتماع مع العميد طلال العلي رئيس "فرع الدوريات" التابع لـ"الأمن العسكري" في دمشق، لم يعد للمنطقة، بعد الاحتقان المتصاعد لدى الفصائل من تصرفاته التي استهدفت تسليم المنطقة للنظام من دون أي عملية تفاوضية.
من جهته، أجرى ما يسمى بالمركز الروسي للمصالحة الوطنية في سورية قبل يومين، ما سماه "لقاء عمل مع شيوخ عشائر ذوي نفوذ لدى فصائل المعارضة المسلحة"، حسبما ورد على موقع قاعدة حميميم في ريف محافظة اللاذقية. وقال المتحدث باسم المركز التابع لوزارة الدفاع الروسية في القاعدة، الجنرال يوري يفتوشينكو، إن "اللقاء تناول شروط المصالحة المطروحة من قبل الطرفين المتنازعين"، مشيراً إلى أن "المركز أجرى 14 لقاء عمل واجتماعاً تفاوضياً بشأن المصالحة في سورية، وهو يعمل مع قادة محافظة القنيطرة على التوصل إلى اتفاقات حول انضمام بلدات الحميدية ومجدولية وجباتا الخشب إلى وقف إطلاق النار، إضافة إلى مواصلة مفاوضات بالشأن ذاته مع فصائل المعارضة المسلحة في أرياف حمص وحلب ودمشق وحماة". وعلى الأرض، بدت إجراءات النظام السوري مختلفة عن الوعود والشعارات المرفوعة في حميميم أو من جانب رموز عمليات "المصالحة" في المناطق السورية المختلفة.
ولعل أوضح مثال على السياسة المخادعة التي اتبعها النظام بشأن المصالحة وعودة المهجرين ما حدث في بلدة سبينة، جنوب دمشق، والتي خضعت لسيطرة قوات النظام منذ منتصف عام 2013، غير أنه لم يسمح لسكانها بالعودة إليها، وإلى مجمل البلدات المجاورة حتى الآن. وأخيراً زار وزير المصالحة لدى النظام علي حيدر المنطقة التي تسيطر عليها المليشيات لقربها من منطقة السيدة زينب، ووعد بعودة أهاليها إليها قريباً. وبالفعل بدأت بعض العائلات السورية والفلسطينية بالعودة منذ مطلع شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، واستقبلت "لجان المصالحة" في هذه المناطق السكان الراغبين بالعودة إلى منازلهم في مكاتبها، ونظمت قوائم بأسمائهم بعد التدقيق في أوراق ملكية المنازل، وطلبت تسديد فواتير الماء والكهرباء المتراكمة. كما قامت برفع القوائم للأجهزة الأمنية التي أشرفت على دراسة القوائم وتنظيم عودة الأهالي، وسمحت بداية بعودة العسكريين وموظفي الحكومة، من ثم بقية السكان المدنيين الذين اشترطت عليهم في حال وجود أفراد من الأسرة خارج البلاد استخراج ورقة مصدقة من دائرة الهجرة تثبت أنهم غادروا بشكل قانوني ومن خلال المعابر الرسمية.
وكشفت "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية"، أنه "لوحظ خضوع عائلات المفقودين والمعتقلين والغائبين لإجراءات مشددة من قبل الأجهزة الأمنية التي كانت تتسلم قوائم الأسماء من لجان المصالحة، وكذلك العائلات التي ينتمي أحد أفرادها لفصائل المعارضة، ومنعت غالبية هذه العائلات من العودة. بل إن النظام لم يسمح لعائلات الشهداء، من المؤيدين له، بالعودة دون استخراج ورقة تثبت مكان وسبب استشهاده".
وعلى ضوء هذه الإجراءات، امتنعت عائلات كثيرة عن تقديم طلبات للعودة إلى منازلها، خوفاً من الملاحقة الأمنية، تحديداً بعد علمها بالإجراءات المتبعة، التي أدت أحياناً كثيرة لاعتقال رب العائلة أو بعض أفرادها. وقد أشار ناشطون إلى أن "أجهزة الأمن ومجموعاته الموالية قامت بتجهيز غرف على مدخل مخيم السبينة للاجئين الفلسطينيين بريف دمشق، لاعتقال المطلوبين عند عودة أهالي المخيم".
ووصف بعض المراقبين عمليات المصالحة للنظام بأنها "من أسوأ التجارب في البلدان التي مرت بظروف مشابهة وتنطلق من معادلة غير متكافئة، تقوم على مبدأ أن الدولة لا تصالح بل تعفو عن المخطئين مقابل التكفير عن أخطائهم، والثمن عادة هو الالتحاق بقوات النظام ومليشياته، اضافة إلى ما يتخللها في بعض الأحيان من عمليات تهجير وترحيل قسري. أضف إلى ذلك عدم وجود ضمانات قانونية لهذه العملية أو مؤسسات محايدة ترعاها وتتولاها فقط أجهزة النظام من أمن أو ما يسمى (وزارة شؤون المصالحة) إضافة إلى مبادرات وجهاء وتجار أزمات، فضلاً عن النشاط الروسي في مركز حميميم".