وكان النظام بدأ يحشد عسكرياً بشكل كبير في شرقي البلاد، فور إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السابع عشر من شهر ديسمبر/كانون الأوّل الماضي نيته سحب قوات بلاده من سورية. وذكرت وسائل إعلام تابعة للنظام السوري منذ أيام، أنّ حشوداً عسكرية بدأت بالتحرّك من المنطقة الوسطى في البلاد باتجاه الضفاف الجنوبية لنهر الفرات، وتحديداً إلى منطقة الصالحية قرب البوكمال على الحدود السورية - العراقية.
ونقلت وسائل إعلام روسية عن مصدر عسكري في قوات النظام قوله، إنّ "هذا التحرّك يمهد لإطلاق عملية عسكرية ضد جيوب وبقايا تنظيم داعش في المنطقة"، مشيراً إلى أنّ هذه القوات "ستنتهي من تمركزها على الجبهات خلال الأيام القليلة المقبلة، قبل أن ينطلق العمل العسكري الذي قد يكون باتجاه منطقة هجين في ريف دير الزور شرق نهر الفرات".
وكانت مصادر معارضة أكدت لـ "العربي الجديد"، أنّ قائد "قوات النمر" سهيل الحسن، التابع للروس، توجّه نحو ريف دير الزور الشرقي برتل كبير يضم 800 مسلح، إضافة إلى دبابات "تي 90" وراجمات صواريخ روسية و11 قاطرة شحن مدنية لحمل الذخيرة وأربع عربات قيادة لإدارة العمليات، ترتبط بقاعدة "حميميم" بشكل مباشر.
وتسيطر قوات النظام ومليشيات إيرانية حالياً على مدينة دير الزور مركز المحافظة، وعلى ريف دير الزور الشرقي جنوب نهر الفرات، وعلى جانب مهم من بادية المحافظة مترامية الأطراف، فيما تسيطر "قسد"، التي تتلقى دعماً عسكرياً ولوجستياً من "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة، على القسم الأكبر من ريف دير الزور الشرقي شمال نهر الفرات.
ومن الواضح أن النظام يريد أن يكون مستعداً، عسكرياً، لأي تطورات مقبلة، في حال الانسحاب الأميركي الذي فاجأ جميع أطراف الصراع في سورية، بما فيها النظام الذي يشعر بأنّ الفرصة تبدو سانحة للقفز إلى شرقي نهر الفرات من بوابة محاربة تنظيم "داعش"، ومن ثمّ التطلع للسيطرة على آبار البترول في ريف دير الزور الشرقي التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية". ولا تزال هذه الأخيرة تخوض اشتباكات مع تنظيم "داعش" شمال نهر الفرات، منذ العاشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، ولكنها لم تستطع حتى اللحظة دحره بشكل كامل، وربما التطورات الأخيرة دفعت هذه القوات للتريّث في الحسم، كي يبقى التنظيم ورقة مناورة سياسية بيدها.
ومن المتوقّع أن تنكفئ "قسد" شمالاً في حال الانسحاب الأميركي، ما يتيح الفرصة لقوات النظام لعبور النهر انطلاقاً من مواقعها في بلدة الصالحية ومدينتي الميادين والبوكمال الواقعة على الحدود السورية - العراقية والخاضعة اليوم لمليشيات إيرانية. كما تضع قوات النظام في حساباتها استعادة السيطرة على كامل الحدود السورية - العراقية في منطقة شرقي الفرات التي فقدت السيطرة عليها منذ عام 2013، وتقع اليوم تحت سيطرة "قسد" التي تعد الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، ما يعني انتصاراً إعلامياً لقوات النظام التي تنسق مع الجيش العراقي ومليشيات "الحشد الشعبي" في العراق.
وفي السياق، ذكرت وسائل إعلام روسية الأحد الماضي، أنّ الرئيس السوري بشار الأسد، خوّل العراق بقصف مواقع تنظيم "داعش" في سورية، بدون العودة إلى السلطات السورية. ونقلت عن مصدر حكومي قوله إنّ الطيران العراقي أصبح بإمكانه الدخول إلى الأراضي السورية وقصف مواقع "داعش"، بدون انتظار موافقة النظام السوري، الذي استقبل رئيسه السبت الماضي، رئيس هيئة "الحشد الشعبي" في العراق، فالح الفياض.
ومن الواضح أنّ النظام يأمل الحصول على القسم الأكبر من التركة الأميركية في منطقة شرقي نهر الفرات، مستغلاً خشية "الوحدات الكردية" من شنّ الجيش التركي هجوماً واسع النطاق في شمال شرقي سورية يبعثر من خلاله ما يعتقد أكراد سورية أنها مكاسب تحققت خلال السنوات القليلة الماضية.
ويحاول الطرف الكردي تقليل الخسائر من جرّاء القرار الأميركي بالانسحاب، من خلال التفاهم مع النظام الذي يدرك أنّ هذا الطرف بات مكشوفاً سياسياً وعسكرياً، ولم يعد لديه هامش مناورة كافٍ، ومن ثمّ بات متهيّئاً لتسوية تتيح للنظام تحقيق مراميه بالعودة (منتصراً) إلى منطقة شرقي نهر الفرات التي تعد الأهم في سورية اقتصادياً.
وجاءت الحشود العسكرية من قبل النظام وحلفائه في الشرق السوري، كرسائل واضحة للقوات الكردية بأنّ "العناد" وعدم التسليم وفق شروط النظام، يعنيان مواجهة عسكرية مباشرة يخرج منها أكراد سورية خاسرين حتى "المكاسب الثقافية"، حيث ستعود المنطقة إلى ما كانت عليه قبل عام 2011 إبان سطوة النظام المطلقة. ولا شكّ في أنّ الحشد العسكري من قبل النظام يؤكد خشية الأخير من صفقة تُعقد بين تنظيم "داعش" و"التحالف الدولي" تتيح لمسلحي التنظيم الانتقال إلى جنوب نهر الفرات، حيث لا يزال "داعش" يحتفظ بجيوب في البادية السورية، تضم خلايا "ذئاب منفردة" تهاجم قوات النظام بين الفينة والأخرى وترهقها. ومن شأن هذه الصفقة إرباك قوات النظام واستنزافها على المدى الطويل، لذا تحاول قطع الطريق أمام مسلحي التنظيم في حال عبورهم نهر الفرات هرباً من "قسد" وطيران "التحالف الدولي" أو نتيجة أي اتفاق.
ولا يقتصر اهتمام النظام من وراء الحشد شرقاً على منطقة شرقي الفرات رغم كونها في مقدمة أولوياته، إذ يتطلّع جنوباً، حيث قاعدة "التنف" التي أقيمت في العام 2016، وتعدّ الأهم بالنسبة إلى "التحالف الدولي" في المثلث الحدودي السوري - الأردني - العراقي. وتشكّل القاعدة حالياً عائقاً أمام تحقيق مخطط إيراني يقوم على فتح ممرّ بري من إيران إلى لبنان عبر العراق وسورية. ومن ثمّ، فإنّ الانقضاض عليها في حال انسحاب الأميركيين، يعدّ خطوة مهمة في طريق تحقيق المسعى الإيراني الذي تريد طهران من خلاله ترسيخ الهيمنة على لبنان والعراق وجانب مهم من سورية.
من هنا، يريد النظام وحلفاؤه تحقيق جملة أهداف في شرقي البلاد، مستغلين الانسحاب الأميركي المفاجئ الذي من المتوقّع أن يترك هذا الشرق المثقل بالأزمات للنظام وحلفائه الإيرانيين الذين بدأوا منذ أكثر من عام محاولات العبث به على المستويات كافة.