ويبقى السؤال الأهم يتركز حول كيفية تعاطي بومبيو، الذي سيتولى وزارة الخارجية في حال تمت المصادقة على قراره تعيينه من الكونغرس، مع أبرز القضايا الدولية التي تعني الولايات المتحدة، والتي أدت إلى إطاحة تيلرسون بعدما اتسع خلافه مع ترامب بشأنها، بدءاً من النووي الإيراني الذي دعم تيلرسون الإبقاء عليه وتعديله وأراد ترامب "نسفه"، مروراً بالأزمة الخليجية التي انحاز فيها ترامب خلال فترتها الأولى لدول الحصار في حين دفع تيلرسون منذ البداية إلى عدم التصعيد وضرورة حل الأزمة بالحوار وقضية كوريا الشمالية التي أخفى الرئيس عن وزير الخارجية قرار موافقته على عقد قمة مع زعيم كوريا الشمالية ليعلم به من الإعلام، ووصولاً إلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهو ما انعكس تهميشاً لتيلرسون مقابل منح الأدوار المنوطة به إلى دائرة من رجال ترامب الذين يثق بهم، وفي مقدمتهم صهره وكبير مستشاريه، جاريد كوشنر، الذي كلّفه، إلى جانب مبعوثه الخاص للسلام جيسون غرينبلات، بمهمة إعداد الصيغة النهائية لما بات يعرف بـ"صفة القرن" التي انطلقت باعتراف ترامب بالقدس المحتلة لإسرائيل، فضلاً عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
التوقف عند تصريحات بومبيو السابقة، الذي تولى منصب مدير الاستخبارات الأميركية في يناير/كانون الثاني 2017، بما في ذلك أحدث مقابلة أجراها في 11 مارس/آذار الحالي، أي قبل يومين من اختياره من قبل ترامب لمنصب وزير الخارجية، تعد مؤشراً مساعداً في محاولة فهم نظرته لهذه القضايا، ومدى إجادته "المساومة"، خصوصاً أنه انتقل من كونه أحد الجمهوريين الذين عارضوا دعم الحزب ترشيح ترامب للرئاسة وحذروا من أن ترامب "سيكون رئيساً سلطوياً"، والذين دعوا الناخبين إلى عدم التصويت له، ليصبح أحد رجال إدارته الذي لم يتردد بعد ساعات من اختياره لمنصب وزير الخارجية في الإعراب عن امتنانه الشديد "للرئيس ترامب على السماح لي بالعمل مديراً لوكالة المخابرات المركزية، وعلى هذه الفرصة للعمل وزيراً للخارجية. ذلك أن قيادته جعلت أميركا أكثر أمانا وأتطلع إلى تمثيله والشعب الأميركي مع بقية أنحاء العالم من أجل تعزيز ازدهار أميركا". كما لا يمكن التغافل عن حقيقة أنه مهما تشددت أو لانت آراء المسؤولين الأميركيين، فإن الأمن القومي وما يتطلبه يأتي أولاً، وبالتالي فإن بومبيو، الآتي من الاستخبارات، يدرك ذلك جيداً.
كوريا الشمالية... كما يريد ترامب
ولعل ملف كوريا الشمالية يظهر بوضوح كيف أن بومبيو، الذي سبق أن هدد مراراً النظام في بيونغ يانغ وسط اعتقاد أميركي بأنه قد يكون قادراً على توجيه ضربة نووية للولايات المتحدة خلال أشهر، مستعداً للتكيف سريعاً مع رغبات ترامب. ولم يكد الرئيس يعلن عن موافقته على عقد القمة مع زعيم كوريا الشمالية حتى خرج بومبيو في برنامج "فوكس نيوز صنداي" على شبكة "سي بي إس نيوز" ليدافع عن القرار. ولفت إلى أن "الرئيس ترامب لا يفعل ذلك على سبيل الاستعراض. هو ذاهب لحل مشكلة".
كما سبق أن رأى بومبيو في تصريحات صحافية تعود إلى شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017 أن "السياسة الأميركية يجب أن تواجه التحدي الدبلوماسي والاقتصادي الذي يشكله نظام كوريا الشمالية"، من أجل إقناع كيم جونغ أون بالتراجع عن تهديده النووي للولايات المتحدة. وأعاد التذكير بأنّ ترامب يفضل إعادة كوريا الشمالية إلى طاولة المفاوضات عبر الدبلوماسية أو العقوبات، إلا أنه لفت إلى أن استخدام القوة العسكرية يبقى خياراً مطروحاً لمنعها من حيازة صواريخ نووية بعيدة المدى. كما أشار إلى أن الاستخبارات الأميركية ترى في زعيم كوريا الشمالية "شخصية عقلانية تركز على البقاء في السلطة والاستيقاظ في سريره كل يوم".
في موازاة ذلك، اعترف بومبيو، مطلع العام الحالي، بأن اللجوء إلى القوة لحل المسألة الكورية الشمالية سيتسبب بخسارة رهيبة من الأرواح في المنطقة حيث يوجد حليفان رئيسيان للولايات المتحدة الأميركية: اليابان وكوريا الجنوبية التي تحدث مسؤولون فيها، أمس الأربعاء، لوكالة "رويترز" قائلين إن "بومبيو معروف بآرائه الصارمة إزاء كوريا الشمالية، لكنه سياسي مخضرم ويبدو أنه يعرف كيف يساوم".
إيران ... لا شيء محسوماً
اختيار ترامب لبومبيو يضع "عدواً شرساً للاتفاق النووي على رأس الدبلوماسية الأميركية بينما تبحث الإدارة ما إذا كانت ستنسحب من الاتفاق"، بحسب وصف وكالة "أسوشييتد برس"، على عكس تيلرسون الذي كان يفضل الإبقاء على الاتفاق وتعديله. وموقف بومبيو من الاتفاق، منذ صيف 2015 وحتى الآن يبدو ثابتاً، إذ إنه في ذروة النقاش حول التوصل إلى صفقة مع إيران، قال بومبيو إن الاتفاق "لن يمنع إيران من الحصول على قنبلة نووية ويجعل إسرائيل أكثر عرضة للخطر". وقال أيضاً إن "النظرية التي تقول إن إيران ما بعد العقوبات ستتعرض للاعتدال هي نكتة، فهي تريد القضاء على إسرائيل، وتشتري الآن الصواريخ الروسية". كما انتقد بومبيو إدارة أوباما لأنها لم تطالب إيران بالكف عن المطالبة بتدمير إسرائيل كجزء من الصفقة، وهو مطلب يقترحه ويروج له رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ولذلك فإن التوجس يسود اليوم في إيران، الأمر الذي عبرت عنه صحيفة "جواد" الإيرانية بقولها وفقاً لما نقلته "أسوشييتد برس"، أمس الأربعاء، إن "استبدال تيلرسون بمدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو يشير إلى نهاية الاتفاق النووي". لكن تصريحات المسؤولين الإيرانيين عكست حرصاً على تأكيد الاستعداد لجميع الخيارات. وبينما نقلت وكالة أنباء "إيسنا" عن نائب وزير الخارجية الايراني عباس عرقجي، قوله إن "الولايات المتحدة مصممة على الانسحاب من الاتفاق النووي، والتغييرات داخل وزارة الخارجية أجريت لهذه الغاية، أو على الأقل هذا أحد أسبابها"، عمد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، برهام قاسمي، أمس الأربعاء، إلى التهوين من الأثر المحتمل لتعيين بومبيو على الاتفاق النووي الموقع عام 2015. وقال قاسمي إن "هذه التغييرات والتطورات والإقالات في حكومة ترامب ليست جديدة". وتابع "لقد شهدنا تطورات مماثلة وهذا شأنهم الداخلي". وأضاف "المهم بالنسبة للجمهورية الإسلامية هو السياسة الأميركية في الشؤون الدولية وتعاملها معنا وسنتبنى مواقفنا الخاصة".
ارتياح سعودي إماراتي
وبينما ستراقب إيران بحذر التطورات خلال الفترة المقبلة، بدت السعودية والإمارات إلى جانب إسرائيل، الأكثر ارتياحاً لاختيار بومبيو، إذ تشترك الدول الثلاث معه في النظرة إلى إيران على أنها تهديد إقليمي، وفي اعتبار أن وزير الخارجية المقال كان عائقاً أمام دفع الإدارة الأميركية تجاه موقف أكثر صرامة من الاتفاق ومن سلوك طهران في المنطقة.
لكنّ لارتياح السعودية والإمارات، الذي تبدّى خصوصاً من افتتاحية الصحف التي احتفت بإقالة تيلرسون، سبباً آخر، يتمثل في رغبتهما في استئناف ضغطهما على واشنطن لاتخاذ موقف أكثر تشددا بشأن قطر، بعد أن كان تيلرسون أكثر ميلاً للتهدئة وتسوية الأزمة بالسبل الدبلوماسية، رافضاً الانحياز الأميركي لدول الحصار، وهو ما دفع الإمارات، بحسب ما كشف أخيراً للضغط على ترامب من أجل إقالة تيلرسون، من دون أن يكون محسوماً موقف بومبيو من الأزمة خلال الفترة المقبلة. مع العلم أنه شارك العام الماضي في مؤتمر نظمته "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات"، وهي مجموعة ضغط ولدت من رحم منظمة "أيباك" التي تقود اللوبي الإسرائيلي في أميركا، وكشفت الرسائل المسربة من البريد الإلكتروني لسفير الإمارات العربية المتحدة في الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، عن علاقة وطيدة ربطت الدبلوماسي الإماراتي بالمؤسسة.
يشار أيضاً إلى أن بومبيو من دعاة تعزيز تقارب إسرائيل مع دول خليجية بينها السعودية. وسبق أن لفت في تصريحات صحافية إلى أن السعوديين "مستعدون للعمل إلى جانب شركائنا الخليجيين، وقد رأيناهم يعملون مع الإسرائيليين للتصدي للإرهاب في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى حد يمكننا مواصلة تطوير تلك العلاقات والعمل جنبا إلى جنب معهم، وستكون منطقة الخليج وجميع أنحاء الشرق الأوسط أكثر أمنا"، على حد وصفه.
دعم مطلق لإسرائيل
في موازاة دعمه المطلق لإسرائيل، والذي عبرّ عنه بومبيو في مناسبات عدة، سواء خلال لقاءات أو تصريحات في الولايات المتحدة أو خلال وجوده في إسرائيل، يبرز تساؤل عما إذا سيكون قادراً على سحب ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي و"صفقة القرن" من يد صهر الرئيس جاريد كوشنر وإعادته إلى الخارجية الأميركية، بعد أن تعمّد ترامب وفريقه طوال الأشهر الماضية تهميش أي دور لتيلرسون على هذا الصعيد.
وتشكل المتاعب التي يواجهها كوشنر، بسبب التحقيقات في التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، والتي أدت إلى فقدانه حق الاطلاع على المعلومات المصنفة سرية للغاية، فرصة سانحة لبومبيو على هذا الصعيد خصوصاً أن تعيينه خلفاً لتيلرسون لاقى ترحيباً في إسرائيل نظراً لمواقفه السابقة المجاهرة بدعم إسرائيل، التي يصفها بالحليف، على حساب الفلسطينيين. فعلى سبيل المثال، زار بومبيو إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ليخلص بعدها إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي التقاه هو "شريك حقيقي للشعب الأميركي"، واصفاً "جهود نتنياهو لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية تستحق الإعجاب والتقدير العميق". وخلال الزيارة نفسها، وبحسب ما أوردت صحيفة "هآرتس" في تقرير لها، التقى بومبيو مع كبار الضباط في الشرطة الإسرائيلية قبل أن يصف بيان صادر عن مكتبه ضباط الشرطة الإسرائيليين الذين التقى بهم بأنهم "مجموعة من الضباط الذين لا يدافعون بشجاعة عن الناس كل يوم فقط، بل إنهم استهدفوا من قبل الإرهابيين"، في إشارة إلى الفلسطينيين.
روسيا... الخيارات مفتوحة
اعتبر الكرملين في تصريحات رسمية أن العلاقات مع الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون أسوأ في ظل ولاية بومبيو، مستندة، على ما يبدو، إلى مواقفه السابقة منها. فهو بحسب تقرير أعدته مثلاً "روسيا اليوم"، يرى أن "روسيا تستعيد بالقوة أمجادها المفقودة" وأنه "لا ينبغي لأميركا أن تسمح لروسيا بالاستمرار في التوسع"، لكن يعتبر أيضاً أنه "إذا استطعنا إيجاد وسائل وتفاهم لتبادل معلومات معها (الاستخبارات الروسية) حول قضايا مكافحة الإرهاب، يجب أن نقوم بذلك ونتعامل مع هذه المسألة".
سورية... استسلام كامل؟
على الرغم من أن بومبيو سبق أن فاخر بأنه من تولى إقناع الرئيس الأميركي باتخاذ قرار قصف قاعدة الشعيرات التابعة للنظام السوري في إبريل/ نيسان 2017، "بعد جمع الأدلة على تورط النظام في قصف خان شيخون بالأسلحة الكيماوية في يوم واحد"، إلا أنه يبدو اليوم أكثر تريثاً حيال توجيه ضربة جديدة.
وخلال حديثه لبرنامج "فوكس نيوز صنداي" على شبكة "سي بي إس نيوز"، قبل أيام، ولدى سؤاله عن سبب عدم تطبيق الخط الأحمر الذي وضعه ترامب بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية، بعد تسجيل استخدام النظام النابالم وغاز الكلور في عدد من المناطق بينها الغوطة الشرقية، برر بومبيو الأمر بالقول "لدينا معيار أعلى للتأكد من أننا نفهم بدقة ما حدث، وعلى وجه التحديد من فعل ذلك حتى يمكن أن تلبي ردودنا التهديد. ونحن نعمل على تطوير ذلك". مع العلم أنه في عهد بومبيو في وكالة الاستخبارات المركزية تم اتخاذ قرار وقف برنامج تسليح وتدريب المعارضة السورية المعتدلة، في خطوة وصفها السيناتور الأميركي ليندسي غراهام بأنها "تمثّل استسلاماً كاملاً للأسد وروسيا وإيران".