وبعد حراك 20 فبراير، الذي استمر لأسابيع عدة في 2011 وطالب بمحاربة الفساد في البلاد، ما أسفر عن تجاوب سريع من قبل العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي دعا إلى حزمة إصلاحات دستورية وسياسية توّجت بمجيء أول حكومة يقودها حزب ذو مرجعية إسلامية، عادت الاحتجاجات بشكل مختلف وفي مناطق جغرافية متفرقة، تجمع بينها مطالب اقتصادية بالأساس.
ويمكن إجمال الاحتجاجات الاجتماعية القوية التي لم يعرفها المغرب منذ حراك 20 فبراير 2011، في ثلاثة احتجاجات عمّت ثلاث جهات (مناطق) في المملكة وهي، منطقة الريف في الشمال وتحديداً مدينة الحسيمة، ومنطقة الجنوب وتحديداً إقليم زاكورة، ثمّ منطقة الشرق وتحديداً مدينة جرادة.
في احتجاجات الريف، التي اندلعت فجأة بسبب مصرع بائع السمك محسن فكري داخل شاحنة نفايات في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2016، كان المطلب الرئيسي للمتظاهرين هو رفع التهميش التنموي عن المدينة، الذي يعود إلى أسباب تاريخية بالأساس جراء العلاقات المتوترة بين الدولة والريف منذ بداية الاستقلال، فضلاً عن مطالب بتشغيل الشباب وبناء مستشفى تخصصي لعلاج السرطان المنتشر هناك، وغيرها من الاحتياجات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي.
أمّا في منطقة زاكورة بالجنوب المغربي، والتي اندلعت فيها الاحتجاجات في أكتوبر/تشرين الأوّل من العام الماضي، فطغى عليها مطلب الماء الصالح للشرب، بعد أن عانى الآلاف من السكان من غياب هذه الحاجة الأساسية في عزّ فصل الصيف الحار، قبل أن تنتهي الاحتجاجات التي سميت حينها بـ"ثورة العطش".
وفي مدينة جرادة، شرق المملكة، انطلقت الاحتجاجات، مثلما حصل في الحسيمة، على خلفية وفاة شابين داخل بئر عشوائي للفحم كانا يحاولان أن يستخرجا منه كمية من الفحم الحجري، ولا تزال تداعيات الاحتجاجات سارية إلى اليوم، وهي التي انطلقت سلمية قبل أن تشوبها أعمال عنف قبل أيام مضت.
ولعل ما يجمع بين هذه الاحتجاجات الشعبية، هو المطالب ذات الطابع الاقتصادي أساساً، من دون فصلها عن السياق والحاجات الاجتماعية. ففي الحسيمة كان المطلب هو تشغيل العاطلين وتفعيل مشاريع تنموية معطلة ومؤجلة، وفي زاكورة طالب المتظاهرون بالماء، وفي جرادة كان المطلب هو الرغيف.
ويتحدّث مراقبون عن تحوّل "الربيع السياسي" الذي عرفته البلاد إبان احتجاجات شباب 20 فبراير، التي كان عمودها الفقري حينها اليسار الراديكالي وجماعة "العدل والإحسان"، قبل أن تنسحب هذه الأخيرة لتقصم ظهر الحركة الاحتجاجية، إلى "ربيع اقتصادي" قوامه مطالب الشغل ولقمة العيش والأمن الاقتصادي بشكل أكبر من المطالب السياسية.
ولم يرفع المتظاهرون في احتجاجات الحسيمة وجرادة وزاكورة، وحتى في احتجاجات أقل زخماً عرفتها مدن أخرى مثل خنيفرة وبني ملال، مطالب سياسية من قبيل مطلب محاربة الفساد أو رحيل الحكومة، إلا في حالات قليلة. وكانت جلّ الشعارات تطالب ببدائل اقتصادية فعّالة ورفع التهميش الاقتصادي وخلق مشاريع استثمارية وتشغيل الشباب العاطلين عن العمل.
وبعد التجربة الحكومية التي يقودها حالياً حزب "العدالة والتنمية" الذي قاد البلاد لولايتين متتاليتين، بعد الانتخابات التشريعية لسنتي 2011 و2016، والتي عرفت مداً وجزراً على صعيد تلبية مطالب الفئات الاجتماعية الهشّة، بدا كأن الطبقات الفقيرة في المجتمع يئست من السياسة ولم تعد تأمل خيراً من أحزاب سياسية أخرى تتصدّر الحكومة.
ولأن اهتمامات سكان الجهات النائية والفقيرة ليست بالضرورة هي انشغالات شباب المدن التي تميل إلى الشعارات السياسية أكثر، فإن المطالب تأخذ بدورها شكلاً آخر عند سكّان مناطق مثل الريف وجرادة، تتجسّد أساساً في ما هو اقتصادي يرتبط بلقمة العيش.
وفي جميع محطات "الربيع الاقتصادي" الجديد في المغرب، ظهرت مقاربات سياسية وحقوقية وأمنية مختلفة المنطلقات والخلفيات بشكل واضح، فمن حيث ردود فعل الأحزاب السياسة، فقد كانت مرتبكة في احتجاجات جرادة، وباهتة في احتجاجات زاكورة. أمّا في احتجاجات الحسيمة، فقد نعتت أحزاب الأغلبية الحكومية المتظاهرين بالانفصاليين عن الوطن، قبل أن يعتذر رئيس الحكومة بنفسه، لتظهر الأحزاب نفسها وهي تدعو إلى تنمية المنطقة، ثم يتلو ذلك كثير من تصريحات زعماء الأحزاب حيال أوضاع الريف، لتنتهي باعتقال أبرز ناشطي الاحتجاجات.
أما المقاربة الأمنية لهذه الاحتجاجات المتفرقة، فكانت في البداية تنتهج المراقبة من دون أي تدخلات، إذ كانت أغلب التظاهرات تمرّ بدون أية مشاحنات بين المحتجين وقوات الأمن، غير أن دخول "جهات ما" على الخط لإشعال الاحتجاجات وتحويلها من مسار السلمية إلى العنف من خلال رشق قوات الأمن بالحجارة وإضرام النيران، وفق ما وثّقت فيديوهات في مدينة جرادة أخيراً، دفع القوات العمومية إلى الردّ على هذه التصرفات، واعتقال المتظاهرين المخالفين وإحالتهم إلى القضاء.
ومقابل اضطراب المقاربة السياسية للحركات الاحتجاجية المتفرّقة في المغرب خلال الشهور الأخيرة، ومقابل الحزم الأمني الذي واكب هذه التظاهرات الملتزمة في مجملها بضوابط القانون، كانت المقاربة الحقوقية منسجمة ومتوازنة من خلال مطلب إطلاق سراح المعتقلين، واحترام حرية التظاهر وفق ما يكفله الدستور، فضلاً عن مطالب تنمية المناطق المهمشة في البلاد.