أما الشعور بالخيبة، فهو بسبب تنصل الروس والإيرانيين من وعودهم والتزاماتهم إزاء تركيا، وفق ما يقول الدبلوماسي التركي نفسه، للمرة الرابعة في أقل من عام واحد منذ اختراع مصطلح "الدول الضامنة" لمسار أستانة، ومناطق خفض التصعيد التي أنشأها ذلك المسار المشؤوم، صيف 2017، بعد تجاهل تفاهمات هدن ريف حمص الشمالي والغوطة الشرقية لدمشق ودرعا، ليصل الدور إلى إدلب، أو "سورية الصغيرة" التي تؤوي اليوم أكثر من 3.5 ملايين سوري أكثر من نصفهم مهجرون من مختلف البلدات والمدن والقرى السورية التي حرقها النظام السوري مع شريكي الجريمة، روسيا وإيران، بما تسبب لتركيا في إحراج ما بعده إحراج واجهته بالصمت حيناً، وبأسف لفظي ظل أقل وقعاً من الصمت أحياناً.
لكن هنا يصل الحديث إلى "التصميم"، فتتغير لهجة الدبلوماسي التركي فجأة في الجلسة الخاصة مع "العربي الجديد"، ليخرج منه كلام مباشر فيه قليل من الدبلوماسية: لن نسمح بأي شكل هذه المرة أن تصل المجزرة إلى إدلب، مستشهداً بكلام أردوغان في اجتماع طهران نفسه، عندما أشار، واضعاً عينيه بعيني فلاديمير بوتين وحسن روحاني أمام الكاميرات، إلى أن "إدلب هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لتركيا". ولأنها كذلك، يعترف الدبلوماسي التركي بما يتردد تسريباً وتلميحاً، فيقولها بلا تردد: "نعم، لقد أدخلنا إلى إدلب سلاحاً نوعياً، من راجمات صواريخ فعالة ومدافع متطورة، لجنودنا في إدلب، ولفصائل معارضة نثق فيها تمام الثقة ولا علاقة لها بجبهة النصرة ولا بأيّ من أخواتها، وذلك كرسالة للمعنيين يجب أن يفهموها جيداً".
ولأن الكلام الواضح هذا يحتاج للتوكيد، فإن الدبلوماسي التركي يذهب أبعد في سقف كلامه، فيشير إلى أن تركيا "لم تفعل ذلك سراً"، بالتالي لم تكن هناك حاجة لتكذيب ما أوردته وكالة رويترز" عن زيادة تركيا تسليح فصائل في إدلب محسوبة عليها، ليقدم الدبلوماسي التركي الخلاصة السياسية للمعلومة تلك، فـ"هذا يعني أن تركيا لم تعد مجرد طرف مراقب ضمن إطار أستانة، بل ستكون طرفاً فاعلاً حين تستدعي الضرورة فعله". كلام يحتاج لاستفسار إضافي سرعان ما يأتي من المسؤول التركي نفسه، فيوضح أن "قبل قمة طهران، كنا في وضع مراقبة (في إشارة إلى النقاط الـ12 التي تتركز خصوصاً في المناطق الحدودية لمحافظة إدلب)، لكن بعد قمة طهران (والاختلاف العلني في الاجتماع الشهير، ورفض بوتين وروحاني إدخال بند إرساء وقف إطلاق نار فوري في إدلب)، أدخلنا قوات عسكرية في إطار معادلة جديدة". معادلة يرفض الدبلوماسي تفصيل معالمها، لكن يسهل الاستنتاج من الاسترسال في الدردشة، بأنها تتعلق باحتمال وجود رد تركي عسكري في حال تنفيذ الوعيد الروسي ــ الإيراني بالتخلص من "هم إدلب" بحسب مصطلحات حكام موسكو وطهران، على اعتبار أن "القوات التركية أصبحت في وضعية قتالية" اليوم في إدلب. هذا في الجانب العسكري من النوايا التركية لجهة فعل كل شيء لمنع الكارثة في إدلب، وللحؤول دون حصول فيضان جديد للاجئين باتجاه تركيا، ولتفادي المزيد من الخسارة السياسية الدبلوماسية المعنوية لأنقرة في ظل مسلسل الحسم العسكري المتواصل لمصلحة محور دمشق ـ موسكو ـ طهران على الأرض السورية.
لكن الشق العسكري متمّم لخطوات دبلوماسية عديدة شرعت بها تركيا منذ شهر على الأقل، أي منذ حُسمت جبهة درعا بالطريقة التي حُسمت فيها، وظهر جلياً أن الوجهة التالية لن تكون سوى إدلب، المقر الأخير لفصائل المعارضة المسلحة في سورية. يفضّل الدبلوماسي التركي الابتعاد عن الإجابة على السؤال المطروح جدياً اليوم حول احتمالات انتهاء التحالف التركي الروسي الإيراني المولود من رحم ترك أنقرة وحيدة تقريباً في معسكر دعم الثورة السورية، ومن حدث استفتاء الانفصال الكردي العراقي حين وجدت تركيا نفسها في خندق واحد مع إيران في مواجهة الفوبيا الكردية، ومن وحش دونالد ترامب الباحث عن تدمير الحلفاء التقليديين (كتركيا) قبل الأعداء الكلاسيكيين (كإيران). في المقابل، يفضل الدبلوماسي التركي الخوض مباشرة في لب الحديث، بلا المواربة الموصوفة في شخصية الموظف الدبلوماسي في العادة.
يقول المسؤول التركي لـ"العربي الجديد" إن تركيا لوحت عملياً، بأدوات عديدة، لأوروبا بورقة تدفق اللاجئين من إدلب إلى دول أوروبا الشرقية في حال لم تتحرك دول القارة العجوز، كل بوسائله، لثني روسيا وإيران عن تنفيذ مشروعهما الدموي، وهذا ربما يفسر التحرك الأوروبي الأقرب إلى الاستفاقة لجهة الاستعداد للتدخل عسكرياً في سورية، ورفض الحملة على إدلب. ربما هكذا يمكن فهم تلميح ألمانيا منذ أيام بالتدخل العسكري في سورية في حال حصلت مجزرة إدلب، وقد يشرح خلفية انتقال فرنسا من رفض القتل حصراً بالسلاح الكيميائي من قبل النظام السوري وداعميه، إلى الكلام عن أن القصف الحالي على إدلب قد يندرج في خانة جرائم الحرب التي ربما يكون شرعياً التدخل الأجنبي لوقفه، مثلما لمّح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في الساعات الماضية.
بعد استرسال الدبلوماسي التركي في شرح رباعية "الحيرة ــ الغضب ــ الخيبة ــ التصميم" التي تسيطر حالياً على عقول أركان الإدارة التركية للملف السوري، لا يبدو المسؤول مطمئناً تماماً للوضع بما أن المسألة ربما لا تقوى تركيا وحدها على مواجهتها بلا الحلفاء الأوروبيين على الأقل. لكن في مقابل عدم الاطمئنان التام، يبقى الدبلوماسي التركي متمسكاً بأمل غير قليل، انطلاقاً من حقيقة مُرضية بالنسبة للأتراك: الروس غير مستعدين لخسارة تركيا، لأن روسيا لم تستطع تحصيل دولار واحد من أجل إعادة الإعمار، لا من أوروبا ولا من أميركا ولا من دول الخليج، بما أن شرط تمويل الإعمار، وعودة اللاجئين، معروف وتدركه روسيا جيداً، وهو الانتقال السياسي بلا بشار الأسد، أو ما يسمى "الحل السياسي"، الذي يجب أن يحصل قبل إعادة الإعمار، وقبل عودة اللاجئين. وتدرك تركيا جيداً، أنه ليس مطروحاً اليوم أن تتمكن روسيا من إقناع حلفائها العالميين بالتضحية مالياً في بلد لا يهم استراتيجياً دولاً قادرة مالياً، مثل الصين، لترمي فيه 400 مليار أو 500 مليار دولار كرمى لعيون بشار الأسد أو علي خامنئي أو حسن نصر الله أو حتى فلاديمير بوتين.