يختتم التونسيون اليوم الأحد، آخر محطات المسار الديمقراطي الطويل، الذي بدأ في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 15 سبتمبر/أيلول الماضي، مروراً بالتشريعيات في 6 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وصولاً إلى الجولة الثانية من الرئاسيات اليوم الأحد لاختيار أحد المرشحين المتأهلين إلى هذه الجولة، قيس سعيّد ونبيل القروي، رئيساً للبلاد التي لا تزال تواجه تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة بعد نحو ثماني سنوات من الثورة. وفي ظل مشهد غامض ومنافسة قوية بين سعيّد والقروي، ومن دون القدرة على معرفة الأوفر حظاً بينهما للفوز، تُفتح صناديق الاقتراع أمام أكثر من سبعة ملايين ناخب، تغيّب أكثر من نصفهم عن التصويت في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية وفي الانتخابات التشريعية، وسط خشية من تراجع نسبة المشاركة بما يحمله ذلك من دلالات عن الانخراط الشعبي في العملية السياسية عموماً. لكن التونسيين عكسوا خلال الأيام الأخيرة قدراً كبيراً من الاهتمام بهذا السباق الرئاسي في مرحلته الأخيرة، تجلى بوضوح في النقاشات الدائرة في الفضاء العام، وتُوّج ليلة الجمعة من خلال متابعة الملايين للمناظرة التلفزيونية الأولى من نوعها في تاريخ البلاد، التي جمعت القروي وسعيّد وجهاً لوجه، ويبدو أنها كانت مهمة في حسم تردد العديد من الناخبين بشأن التصويت لهذا أو ذاك.
وأنقذ القضاء التونسي هذه الانتخابات في ربع الساعة الأخير، بعد أن قرر إطلاق سراح القروي من السجن، وإلا كان استمرار سجنه سيشكّل ضربة قوية لهذه الانتخابات الرئاسية ولصورة البلد الديمقراطي عموماً. وانتبه التونسيون إلى صورة المرشحين يتصافحان بحرارة بعد المناظرة، على الرغم من إطفاء الأضواء في استوديو التلفزة الوطنية، ما يعكس تعلقهم بسلمية الصراع السياسي وارتقاء النخبة إلى مستوى فهم طبيعة الصراع السياسي والمنافسة الانتخابية الديمقراطية، بما يؤصل عملية التأسيس لمسار يزداد صلابة يوماً بعد آخر.
وعلى الرغم من أن ذلك مرّ من دون اهتمام يذكر، فإن النخبة السياسية التونسية، بأحزابها وشخصياتها، أثبتت خلال الدور الرئاسي الأول والانتخابات التشريعية قدراً كبيراً من النضج السياسي، من خلال قبولها نتائج الانتخابات التي أقصتها بكل روح رياضية، وبكثير من التواضع لدى أغلبهم. وأثبتت التجربة أيضاً أن الصندوق الانتخابي التونسي ارتقى إلى مستوى القداسة، وأن هيئة الانتخابات كانت على درجة كبيرة من الاستقلالية، بدليل هزيمة الأحزاب الحاكمة وخروج مرشحين من الظل، أحدهما بلا سند سياسي مطلقاً، والآخر كان في السجن على ذمة التحقيق، وهو درس عالي الأهمية تقدّمه التجربة التونسية لمتابعيها في العالم، تثبت من خلاله أنها خرجت من مرحلة الارتباك، على الرغم من كل ما يقال عن أخطاء هيئة الانتخابات وقراراتها.
لكن السؤال المهم الذي سيرافق التونسيين اليوم في طريقهم إلى مراكز الاقتراع، مَن مِنَ المرشحَين يستطيع أن يدعم هذا المسار، ومَن يستطيع أن يساعد في الخروج من الورطة الاقتصادية والاجتماعية، ومَن ينهي حالة الصدام بين رأسي السلطة التنفيذية، الحكومة والرئاسة، ومَن يستطيع أن يجمّع، ومَن سيكون عامل تفرقة، مَن سيدافع عن حرية التعبير وعن مكتسبات الثورة والدولة الوطنية ويسهّل عملية الحكم لتتخلص المؤسسات من جمودها ويطلق زمام المبادرة، وفي الملخص، مَن منهما يستطيع أن يعيد الثورة إلى سكة مطالبها وأحلامها وينشر الأمل في قلوب التونسيين، وخصوصاً شبابها؟
ويبدو من خلال مؤشرات النقاشات ومواقف الأحزاب، أن التصويت الرئاسي يتخذ بعداً أخلاقياً في الحسم بين المرشحين. واعتبر الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ هناك العديد من العوامل لاختيار مرشح للانتخابات الرئاسية، منها نظافة اليد ومقاومة الفساد، وسيكون الاختيار بين رجل القانون والدولة من جهة، واللوبيات من جهة أخرى، أو ما بين ما يُسمى "السيستام"، وقوى الثورة، لافتاً إلى أنّ "السيستام" (منظومة الحكم والدولة العميقة) بعد الهزيمة في التشريعية يحاول التشبث بالرئاسية، مقابل الرغبة في التغيير لأنصار سعيّد والقوى الداعمة له، وجلّها عوامل ستكون أساس الاختيار بين المرشحين.
وأشار الشابي إلى أن التونسيين لم يطّلعوا على أيٍّ من برامج المرشحين، وبالتالي لن يكون الاختيار على هذا الأساس، بل على أساس الأشخاص ورصيد كل منهما، وستساهم المناظرة، أي التواصل مع التونسيين، في لعب دور، ولكنه بسيط ولن يؤثر في تحديد الاختيار أو المعيار الأساسي.
وأوضح أن المرحلة التي تلي الرئاسية هي التي ستكون الفترة الأصعب، وليس الانتخابات الرئاسية في حد ذاتها، فالبرلمان محور ثقل السلطة، ومع التشتّت في الكتل إمكانية التحالفات بين الأحزاب ستكون صعبة، مبيناً أن الانتخابات أفرزت أغلبية معارضة، وهي من المفارقات لأن الأصح أن تكون الأغلبية من الأحزاب حاكمة، ولكن في النهاية ستحصل تنازلات لتشكيل الحكومة.
من جهته، أكد القيادي في "الجبهة الشعبية" زهير حمدي في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ أغلب الانتخابات في تونس لم تُدَر على برامج وعلى خيارات قدمها المرشحون، معتبراً أنه كان من المفروض بحكم الصلاحيات المحدودة لرئيس الجمهورية أن تدار على رؤى عامة، ولكننا أمام مرشحَين والاختيار بالنسبة إلى التونسيين سيكون على المرشح الأكثر ثقة والأقل إثارة للمشاكل والذي لا تحوم حوله شبهات.
ولفت حمدي إلى أن "هناك مرشحاً تحوم حوله شبهات فساد، وآخر يراه البعض الأنظف، وبالتالي فالتصويت سيكون على الأخلاق وعلى الأقل شبهات وعلى أساس السمعة وعلى ارتباطات الشخص الخارجية، وهي عوامل ستُمنح على أساسها الأصوات". وتوقع أن تكون الانتخابات صعبة "لأن المناخ السياسي ككل يتضمن أوضاعاً معقدة واستثنائية، وبالتالي فالمرحلة ككل صعبة، وما تمرّ به تونس من أجواء يثبت أن هناك تشنجاً وتراشقاً بالتهم وإثارة للملفات"، لافتاً إلى أن الرئاسيات "حُصرت في وضع غريب واستثنائي وكانت محل جدل، خصوصاً بالنسبة إلى أحد المرشحين، وبالتالي فالوضع العام صعب وما ستؤول إليه الانتخابات وما ستفرزه أيضاً ستكون فيه الخيارات دقيقة".
وإذا كان الشابي وحمدي قد عبّرا عن دعم حزبيهما لسعيّد صراحة كما أحزاب أخرى كثيرة، فإن قلة دعت إلى التصويت لمنافسه نبيل القروي، بينما اختارت أخرى الحياد في هذا الصراع، ومن بينها حزب رئيس الحكومة يوسف الشاهد، حزب "تحيا تونس" الذي ترك الحرية لمناضليه لاختيار من يرونه صالحاً. لكن الشاهد نشر مساء الجمعة تدوينة على صفحته في "فيسبوك" جاء فيها: "كما قلت سابقاً، إما الدولة وإما الفساد... ويوم الأحد لن أصوّت للفساد"، وهو ما يؤكد أنه لن يكون هناك حياد فعلي، لأن المنافسة تجري أيضاً أخلاقياً بين المرشحين.
وحصد سعيّد دعماً مباشراً من كثيرين من الوازنين في المشهد الانتخابي التونسي الجديد، كحركة "النهضة" و"التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب" و"ائتلاف الكرامة"، ومن المرشح للرئاسيات في الجولة الأولى الصافي سعيّد، ورئيس حزب "التيار الشعبي الجمهوري" لطفي المرايحي، وسيف الدين مخلوف عن "ائتلاف الكرامة"، وغيرهم. وإذا تجمّع أنصار كل هؤلاء فعلاً وراء هذه الدعوات، فسيكون من الصعب تصوّر قلب المعادلة من قبل القروي، إذ إن جمع أصوات كل هؤلاء سيؤدي إلى حصول سعيّد على مجموع 57 في المائة بيسر شديد، من دون احتساب أصوات الأحزاب المحايدة التي تصل إلى نحو 10 في المائة. ويحصل سعيّد أيضاً على دعم نحو 110 نواب من دون احتساب أصوات المستقلين، في حين أن القروي يعاني صراحة من غياب دعم من خارج حزبه "قلب تونس"، باستثناء دعم شخصيات وأحزاب غير وازنة شعبياً، وفق نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة.
لكن الانتخابات التونسية أثبتت في كل تجاربها السابقة أنها مزاج يتحدد أحياناً في الساعات الأخيرة، وماكينات انتخابية تحسن التحرك وتغيير الوجهات بحرفية، ولكن المنافسة تبقى مشوقة جداً، والأهم أن لا أحد في تونس أو خارجها يعرف اسم الرئيس التونسي الجديد، وسينتظر التونسيون كما تعودوا الساعة الثامنة ليلاً بالتوقيت المحلي ليسود الصمت في متابعة القناة الوطنية الأولى الرسمية، لإعلان شركات سبر الآراء عن تقديراتها بشأن الفائز، وقد كانت كلها صحيحة ودقيقة إلى حد الآن.