تبدأ اليوم الجمعة في العاصمة السودانية الخرطوم جولة المفاوضات الثلاثية بين وزراء الموارد المائية والريّ في مصر وإثيوبيا والسودان، بحضور الفرق العلمية من الدول الثلاث، بشأن قواعد الملء الخاصة بسدّ النهضة الإثيوبي، ويأمل الجانبان، المصري والسوداني، أن تكون هذه الجولة حاسمة، لتنهي بذلك الخلافات القائمة حول قواعد الملء وفترته وكمياته، وأن يتحقق التوصل إلى حلّ وسط يمكن اعتماده بصورة نهائية، في أعقاب رفض إثيوبيا المطلق للمقترح المصري، وتمسكها بمقترح سبق أن رفضته مصر العام الماضي.
وانتهت أمس في الخرطوم لقاءات ما يُسمّى "المجموعة الوطنية المستقلة للدراسات العلمية" التي شُكّلت بصورة سرية من 15 عضواً، بواقع خمسة ممثلين لكل دولة، لتقديم تقرير جديد يتضمن توصيات علمية لتقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث حول عملية ملء الخزان، واستغلال الموارد المائية المشتركة في تنمية الدول الثلاث وفق معايير عادلة، والتأكد من عدم انعكاس عملية ملء الخزان بالضرر على أي طرف. يذكر أنه حتى الآن لم يُبَتّ في الملاحظات التي أبدتها الدول الثلاث على توضيحات الاستشاري الفرنسي في تقريره بشأن الآثار الاجتماعية والاقتصادية على دولتي المصب.
وقالت مصادر دبلوماسية لـ"العربي الجديد" إن الاجتماعات العلمية شهدت تعنّتاً جديداً من الفريق الإثيوبي الذي أكد رفضه للرؤية المصرية الخاصة بتضرر مصر المطلق من خطة الملء المقدمة من أديس أبابا، وقدّم تقريراً يدعي أن اتباع المقترح المصري ربما يؤدي إلى عدم ملء خزان سد النهضة على الإطلاق، وهو ما يجعله مقترحاً غير قابل للتطبيق.
وأضافت المصادر أن الفريق العلمي المصري ذكر خلال الاجتماعات أن الخطة الإثيوبية المعلنة التي تحدد المرحلة الأولى من المراحل الخمس لملء السد تستغرق عامين، وفي نهاية المطاف سيُملَأ خزان السد في إثيوبيا إلى 595 متراً، وستصبح جميع توربينات الطاقة الكهرومائية في السدّ جاهزة للعمل، ما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوبيّ السدّ العالي بنحو كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقلّ عن مستوى 170 متراً، ما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والريّ المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.
وأوضحت المصادر أن الفريق المصري اقترح على الإثيوبيين أن يتم إيقاف عملية الملء إذا انخفض منسوب بحيرة ناصر عن 165 متراً، باعتبار أن هذا المنسوب هو الذي يضمن عدم خروج الأراضي الزراعية المصرية من الخدمة، وأن يكون هذا الرقم هو المؤشر الذي يُحدَّد من خلاله استئناف الملء من عدمه، الأمر الذي أثار استهجان الإثيوبيين الذين تمسكوا بأن الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر قد يؤدي إلى حرمان بلادهم إمكانية الملء لأشهر عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي فإنهم يعتقدون أن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب.
وأضافت المصادر أن الفريق السوداني سعى لتقديم بعض الحلول التوافقية من أرضية فنية بحتة، التي ستعرض على اجتماع الوزراء، لكن الجانب الإثيوبي ما زال متمسكاً بأن يكون قرار الملء والإيقاف والاستئناف محليّاً صرفاً، "حفاظاً على السيادة الوطنية".
وأشارت المصادر إلى أن القول الآن إن الحل يجب أن يكون فنياً فقط، كما ذهبت تصريحات الجانب السوداني، أمر "متأخر جداً عن أوانه وغير واقعي"، نظراً لانخراط كل من مصر وإثيوبيا في جولات دبلوماسية بدعوة السفراء الأفارقة والغربيين والعرب إلى ترويج الرؤية الخاصة بكل منهما، ما يعني أن الدولتين قررتا خوض "معركة دبلوماسية" بعيداً تماماً عن المعايير العلمية المحضة لاختيار خطة أفضل لتنفيذ فترة الملء الأولى.
وسبق أن أعلنت كل من مصر وإثيوبيا فشل جولة التفاوض الأخيرة التي عقدت منتصف الشهر الماضي في القاهرة، إذ رفض الوفد الإثيوبي مناقشة المقترح المصري من الأساس، وكشفت مصادر آنذاك لـ"العربي الجديد" عن أن الوفد الإثيوبي خلال المفاوضات التي عقدت في أحد الفنادق الكبرى في مدينة نصر شرقيّ القاهرة كان واضحاً وصريحاً من البداية في رفض المقترحين المصريين. وبحسب المصادر، فإن الرهان هو على أن مصر لن تستطيع وقف العمل بالسد، موضحة أن "هناك بعض الاستفزازات اللفظية صدرت من الجانب الإثيوبي، فضلاً عن إهدار الوقت، وخروج بعض أعضاء الوفد من الاجتماعات مراراً لأسباب واهية، وبحجة التواصل مع أديس أبابا، ما أدى إلى إفقاد المفاوضات جديتها المفترضة".
وكانت مصر تسعى إلى إعادة تفعيل اجتماعات المجموعة الوطنية العلمية المستقلة. وبحسب المصادر، فإنه لا يمكن الرهان على المخرجات الخاصة بهذه المجموعة لإيقاف التقدم الإنشائي الإثيوبي، ولكن مصر ترغب في الحصول على تقارير فنية وعلمية متماسكة يمكن استخدامها في الترويج الدبلوماسي الذي تقوم به الخارجية المصرية حالياً لانتزاع تعاطف أوروبي مع قضيتها، وللضغط على إثيوبيا لإبداء مزيدٍ من المرونة.
وأشارت المصادر إلى أن الدول الغربية التي دُعي سفراؤها إلى اجتماع مع مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون الأفريقية حمدي لوزا الشهر الماضي، لإطلاعهم على موقف المفاوضات المتعثر، "لم تُبدِ حتى الآن مواقف واضحة بشأن الضغط على أديس أبابا". ولبعض الدول، مثل إيطاليا وفرنسا، مصالح مباشرة في استمرار العمل بوتيرة متسارعة في السدّ، بمشاركة بعض مستثمريها، بينما تنظر دول أخرى إلى إثيوبيا كدولة واعدة بنظام سياسي حديث يمكن الرهان عليه والتعاون معه والاستثمار فيه.
وذكرت المصادر أنه لا توجد في الأفق أي بادرة للقاء حاسم بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، نظراً لاتساع الفجوة بين الواقع العملي والتصريحات التي يدلي بها الأخير في المناسبات المختلفة. وبحسب المصادر، فإن "خبراء الري يرون أن المعالجة السياسية للقضية منذ توقيع الاتفاق الثلاثي في مارس/آذار 2015 لا تسير بنحو صحيح، لأنها تركز على الخطابات الدعائية، لا على الأرقام والإحصائيات"، وأن حلّ القضية حالياً يتطلب "تغييراً جذرياً في سياسة مصر"، ويتطلب أيضاً "حلاً سياسياً بالدرجة الأولى".
وفي الآونة الأخيرة، عبّرت مصر عن تفاقم مخاوفها بسبب عدم التوصل إلى حلّ بعد سنوات من التفاوض، واعترف الرئيس المصري خلال المؤتمر الثامن للشباب الذي عُقد يوم السبت 14 سبتمبر/أيلول الماضي بصعوبة الموقف، ملقياً باللائمة على ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 بأنها سبّبت إسراع إثيوبيا في إنشاء السد.
وكان السيسي قد صرّح مطلع عام 2018 بأنه "لم تكن هناك أزمة من الأساس حول سدّ النهضة"، بعد اجتماع في أديس أبابا مع نظيره السوداني عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ميريام ديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي. وخالف السيسي بذلك كل التصريحات الرسمية المصرية التي أبدى فيها المسؤولون قلقهم وغضبهم من انسداد المسار التفاوضي، وميل الخرطوم إلى مواقف أديس أبابا، وعدم مراعاتهما المخاوف المصرية من تفاقم الفقر المائي. لكن الحكومة المصرية عادت الشهر الماضي لتعرب عن مخاوفها من إطالة فترة التفاوض بحجّة عدم الاستقرار السياسي في السودان.