كان الحاج عبد الرحيم زيدان "أبو محمد" (81 عاماً) يسير نحو أرضه في وادي قانا قرب بلدته ديراستيا في سلفيت شمال الضفة الغربية المحتلة، وهو لا يعلم إن كان سيستطيع الوصول إليها في وقت لاحق، بعد أن صدر قرار عسكري إسرائيلي في شهر أغسطس/آب الماضي، بتحويل تصنيفها ومئات الدونمات حولها من محمية طبيعية إلى أرض للبناء الاستيطاني.
المفارقة لدى أبو محمد أنه كان يمنع من زراعة أرضه بالأشجار المثمرة. ففي عام 2009 قام بزراعة مئات من أشجار الزيتون، لكن جيش الاحتلال اقتلعها، بحجة أنّ المكان معلن كمحمية طبيعية وغابة، ويمنع تغيير معالمه. وبعد تلك السنوات سيفقد الرجل أرضه لبناء حي استيطاني جديد، بواقع 120 وحدة استيطانية تتبع مستوطنة "كرمي شمرون" المقامة على أراضي سلفيت.
ووجهه أبو محمد في أثناء حديثه لـ"العربي الجديد" رسالة إلى الاحتلال قال فيها: "هل لكم أرض عندنا؟ لا أرض لكم هنا. هذه أرضنا قبل مجيء بريطانيا. أنا ولدت فيها عام 1938. نحن أسسنا هذه الأرض، نحرثها، وندرسها، ونفلحها، والآن تتسلطون علينا لمصادرتها!".
وتواجه 14 عائلة من قريتي ديراستيا في سلفيت وكفرلاقف في قلقيلية خطر مصادرة أراضيها لصالح التوسع الاستيطاني الجديد، إضافة إلى أراض مسجلة باسم خزينة الدولة. لكن الأمر لا يقتصر على مصادرة الأراضي فقط، بل على أمر يعتبره الأهالي خطيراً جداً ضمن ما نصّ عليه القرار الإسرائيلي، ويتعلّق بإلغاء إعلان غابة محمية وفقاً لقانون الأحراش والغابات لسنة 1927.
ليس من أجل الطبيعة
في عام 1983، أعلنت سلطات الاحتلال عن تخصيص 14 ألف دونم في وادي قانا كمحمية طبيعية، ويبدو ذلك الإعلان لأهالي المنطقة وكذلك للباحثين والمتابعين، ليس من أجل حماية الطبيعة، بل لحجز تلك الأراضي وإبعاد الفلسطينيين عنها. فقبل ذلك بسنوات قليلة، بدأ الاحتلال بإقامة مستوطنات عدة حول الوادي، وقد تواصل البناء الاستيطاني حتى وصل عدد المستوطنات إلى ثمانٍ، إضافة لمعسكر لجيش الاحتلال، يحيط بالوادي.
وتشير بلدية ديراستيا إلى أنّ الأراضي التي ستصادر وتحوّل لصالح الاستيطان تبلغ قرابة 700 دونم؛ 400 دونم منها مسجّلة بأسماء مواطنين لديهم الإثباتات على ملكيتها، و300 دونم مسجلة كأملاك دولة. وبحسب عضو المجلس البلدي لديراستيا نظمي سلمان، وهو أيضاً أحد المزارعين هناك، فإنّ التغير على الأهالي ومحاولة إبعادهم عن المنطقة لم يتأخر كثيراً عن إعلان المنطقة محمية.
ويوضح سلمان في حديث مع "العربي الجديد" أنه "في عام 1985 قام المزارع يوسف منور ببناء غرفتين، فأقدمت جرافات الاحتلال على تدميرهما، ثمّ تصاعدت وتيرة إجراءات الاحتلال، وكانت ذروتها بين عامي 2010 و2016، إذ تمّ اقتلاع 2500 شجرة زيتون زرعها أصحاب الأرض، وتدمير عدد من العزب (بيوت أو غرف صغيرة) التي يستخدمها المزارعون، وكان آخر إجراء في هذا الصدد تدمير عزبة المزارع شقيف دنان العام الماضي".
وتكمن أهمية وادي قانا بطبيعته الخلابة، التي يستغلها الاحتلال لاستقطاب المستوطنين كسياح إلى المنطقة. كما يحوي الوادي 11 عين ماء، وتقيم فيه الآن 15 أسرة في بيوت شيّدت قبل تاريخ إعلانه محمية، وهم مزارعون ومربو أغنام وأبقار، في حين كانت تقطنه قبل إجراءات الاحتلال 300 أسرة، ولكنها رحلت بسبب القيود المشددة التي تفرضها السلطات الإسرائيلية، ضمن سياسة تشبه التهجير الناعم.
ويشير سلمان إلى ازدواجية المعايير لدى الاحتلال؛ فخلال سنوات عديدة امتدت من أوائل تسعينيات القرن الماضي حتى عام 2003، كان إفلات المياه العادمة من المستوطنات باتجاه المنطقة أحد طرق تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، في حين يمنع صاحب الأرض من ترميم بيته القديم، أو زراعة أشجار الزيتون فيها، بحجة الحفاظ على الطبيعة.
والقرار العسكري الإسرائيلي الأخير كان قد سبقه قرار آخر العام الماضي بتحويل مساحات من المحمية الطبيعية إلى أراضٍ للسكن والحدائق العامة لصالح مستوطنة "نوفيم"، بحسب بلدية ديراستيا. وتشير الأخيرة نقلاً عن مخططات تنشرها مؤسسات حقوقية إسرائيلية، إلى أنّ أكثر من مائة وحدة استيطانية مقامة فعلاً على الأراضي المصنفة محمية، فضلاً عن شقّ طرق وتسويتها لصالح مستوطنة "كرني شمرون" لربطها بالمحمية، وهو ما يُمنع بتاتاً على الفلسطينيين، حتى لو كانت طرقاً زراعية.
احتياطي استراتيجي للاستيطان
ويعدّ الإعلان الإسرائيلي الأخير استمراراً للمنطلقات المنهجية التي يستخدمها الاحتلال لاستعمار واستيطان الأراضي الفلسطينية، فـ"ما قام به سابقاً أنه حجز مساحات من الأراضي عبر إعلانها محمية، ولم يستخدمها"، بحسب ما يؤكد مستشار رئيس "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان" الفلسطينية، محمد إلياس، في حديث مع "العربي الجديد".
وبرأي إلياس، فإنّ "المعيار الوحيد لدى الاحتلال بإعلان أرض محمية أو إلغاء ذلك الإعلان، هو مصلحة المستوطنين. ففي وادي قانا، كان الإعلان لوجود مطامع للسيطرة على المنطقة، والتعامل معها باعتبارها احتياطياً استراتيجياً لعمليات الاستيطان. وحين تطور المشروع الاستيطاني وأصبحت تلك المناطق مطلوبة للتوسّع، تمّ إلغاء الإعلان بشأن تحويلها إلى غابة أو محمية".
وليس وادي قانا حالة منفردة، فمستوطنة "جبل أبو غنيم - هارحوما" أقيمت على أراضي الفلسطينيين شمالي بيت لحم جنوب الضفة الغربية في عام 1997، بعد إزاحة غابة حرجية في المكان، وضمها من قبل سلطات الاحتلال إلى القدس.
وكما يورد مدير وحدة مراقبة الاستيطان في معهد الأبحاث التطبيقية - القدس "أريج"، سهيل خليلية، في حديث مع "العربي الجديد"، فإنّ الاحتلال أعلن سابقاً مكان مستوطنة "هارحوما" محمية طبيعية ووضعت المخططات الهيكلية بناء على ذلك، ولكن أعاد تصنيفها منطقة بناء، لتتم إزالة 60 ألف شجرة حرجية من مكان المستوطنة، مضيفاً أنه كان الحال مشابهاً عند إقامة مستوطنة "ريخس شعفاط" على أراضي القدس.
ويؤكّد خليلية أنّ المخطط الأخطر لوادي قانا، هو أن يتم عزله بالكامل خلف الجدار الفاصل في حال اكتمل بناؤه، فحسب المخطط المعلن للجدار الذي لم يكتمل بعد، سيعزل الوادي به ليتم الفصل جغرافياً بين الأراضي وأصحابها، ما سيسهل السيطرة عليها.
ولكنّ الأهالي يحاولون زيادة التواصل مع الوادي، خصوصاً أبناء القرى المجاورة الذين يقصدون المكان بشكل دوري، فضلاً عن زيارة آلاف العائلات من مناطق مختلفة من الضفة الغربية له بأيام العطل، لا سيما خلال فصلي الربيع والصيف كنوع من الاستجمام، بينما تحضّر الفعاليات في المنطقة لاحتجاجات على القرار الإسرائيلي الأخير وتقديم الاعتراضات القانونية عليه، وذلك وفق ما يؤكد نظمي سلمان، عضو المجلس البلدي لديراستيا.
"أوسلو" والمحميات الطبيعية
تشير الأرقام لدى معهد "أريج" والمستندة إلى الأرقام المعلنة إسرائيلياً، إلى وجود 700 كيلومتر مربع في الضفة الغربية معلن عنها "محميات طبيعية"، إضافة إلى 78 كيلومتراً مربعاً كغابات، لتصل نسبة تلك الأراضي إلى 13.7 في المائة من مساحة الضفة الغربية، ومعظمها تقع في المناطق المصنفة "ج" وفقاً لاتفاق أوسلو، أي تحت السيطرة الإسرائيلية.
وحول تثبيت اتفاق أوسلو للواقع المعلن من المحميات الطبيعية، يقول مستشار هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، محمد إلياس: "إنّ هذه المحميات ذكرت بالاتفاقات الموقعة، ولكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ المفاوض الفلسطيني تعامل مع القضايا موضوع التفاوض، على اعتبار أنها مرحلة مؤقتة لمدة أربع إلى خمس سنوات، وسيتم استرجاع الأراضي الفلسطينية بعد انتهائها".
وبحسب إلياس، فإنّ "الحديث كان عن إشراف بشكل مؤقت، وبالتالي لم يتشدّد المفاوض الفلسطيني أو يدقق بالتفاصيل. وقد شمل الاتفاق مساحات وحدود المحميات، والاتفاق بشكل عام على أن لا يتم البناء فيها، وأن يتم الحفاظ عليها".
وفي السياق ذاته، يؤكّد مدير معهد "أريج" سهيل خليلية، أنّ تسليم المحميات كان سيتبع تسليم الأراضي المصنفة "ج"، فكان من المفترض تسليم 95 في المائة من أراضي الضفة الغربية مع نهاية عام 1998، وهو ما لم يحصل، معتبراً أنّ "ما يتم من تغيير تصنيف المحميات، مخالف للاتفاقات الموقعة، وكذلك للمواثيق الدولية".
وتبقى المساحات الواسعة المقدرة بـ13.7 في المائة من الضفة الغربية عرضة لإعادة تدوير الاحتلال لقراراته العسكرية، من أجل استغلالها لصالح الاستيطان، حيث توجد قرابة 50 محمية، وأهم المناطق التي تحويها، بحسب محمد إلياس، هي طوباس وتحديداً الأغوار الشمالية الفلسطينية، التي يروج رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لخطته بفرض السيادة الإسرائيلية عليها في حال فاز في الانتخابات، ووادي قانا في سلفيت، وبيت لحم والخليل. أمّا تدوير القرارات، فلا يقتصر على المحميات، بل هناك أساليب مختلفة، أهمها إقامة قواعد عسكرية، أو إعلان منطقة تدريب عسكري، أو إعلان الأراضي تابعة للدولة".
بدوره، يؤكد خليلية أنّ الاحتلال يلجأ إلى كثير من الحجج ليستولي على مناطق بشكل أو بآخر "لمنع تصرف الفلسطينيين بها، وبعد ذلك يعيد استعمالها"، مشيراً إلى أنّ "كل مستوطنات الضفة الغربية باستثناء القدس فعلياً، كانت بدايتها عبارة عن نقطة عسكرية، ومن أشهر هذه المناطق مستوطنة (معاليه أدوميم)، التي بدأت كنقطة عسكرية وتم تحديد موقعها وإقامة بنية تحية خفيفة للموقع، ولاحقاً أعطى الاحتلال الصلاحية للمستوطنين لإقامة كرفانات، ثم غير تصنيفها إلى مكان مخصص للبناء الاستيطاني".
وتبلغ مناطق التدريب العسكري كما يفيد مستشار هيئة مقاومة الجدار والاستيطان محمد إلياس، من 18 إلى 20 في المائة من مجمل مساحة الضفة الغربية، حيث يستخدم الاحتلال 15 في المائة منها فقط، أي أنّ 85 في المائة تحجز فقط لمنعها عن الفلسطينيين.