في الطريق إلى قرية الباغوز، الجيب الأخير لتنظيم "داعش" بريف دير الزور السوري والذي يشهد معارك محتدمة بين عناصر التنظيم و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) تدعمها قوات التحالف الدولي، لا بد من سلوك طريق صحراوي طويل ومتعب لا تشاهد فيه إلا الحواجز العسكرية والسيارات الآتية من خط المعارك العائدة لـ"قسد" وينقل بعضها المدنيين. على الطريق مشاهد لسيارات ودراجات نارية محترقة من جراء القصف والمعارك، وأخرى معطلة كانت الوسيلة الوحيدة التي توفرت للمدنيين للخروج من الموت الذي طاردهم، وتناثرت منها حقائب الملابس والعباءات والأغراض وتوزّعت على الأرض.
كلما تقلصت المسافة إلى قرية الباغوز ازدادت شواهد المعركة. راجمة الصواريخ التي تعود لقوات التحالف كانت تقوم بقصف القرية يرافقها قصف للطيران الحربي. الدخان المتصاعد من القرية يظهر من بعيد. ومع الاقتراب من الحدود السورية-العراقية ومنطقة تجمّع المدنيين الهاربين من المعارك عبر الممر الآمن المخصص لذلك، يصبح التصوير لتوثيق معاناة المدنيين ممنوعاً، بذريعة وجود قوات التحالف التي تشرف على الموقع مع قوات "قسد" وأخرى من مجلس منبج العسكري. لكن وجوه المدنيين شاهدة على ما مرّوا به قبل الخروج من الباغوز. رجال يجلسون على الأرض، على شكل مجموعات عدة تختلف بأعدادها، وبالقرب منهم سيارات مليئة بالنساء والأطفال وقليل من الرجال وكبار السن. بدت على البعض آثار الصدمة والبعض الآخر رفض الحديث. لكل واحد من هؤلاء أسبابه ومخاوفه. ومن قرر الحديث ركز على استمرار وجود أعداد كبيرة في القرية رغم استمرار خروج المدنيين.
وأكدت مصادر إعلامية معارضة أن "مدافع وراجمات القوات الفرنسية قصفت ليل الإثنين، الأجزاء الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش في قرية الباغوز"، مشيرة إلى أن "إحدى الراجمات استهدفت مخيماً للمدنيين على أطراف القرية، ما تسبب باحتراق خيام عدة وسقوط العشرات بين قتيل وجريح". وأوضحت أن "معظم المدنيين المصابين بالمجزرة هم من النازحين من قرية السوسة القريبة من الباغوز، أي أنهم فروا من الموت إلى الموت".
بدوره، وقال ناشط محلي في دير الزور لـ"العربي الجديد"، إن "طائرات التحالف الدولي شنّت سلسلة غارات جوية عنيفة على منطقة مأهولة بالسكّان في أطراف بلدة الباغوز، ما أدى إلى مقتل وإصابة مدنيين بينهم أطفال ونساء".
ولا توجد معلومات مؤكدة عن عدد المدنيين الذين تقطعت بهم السبل في البقعة الجغرافية الضيقة التي لا تزال تحت سيطرة تنظيم "داعش"، ولكن شبكة "فرات بوست" المحلية أشارت إلى أن "أكثر من ألف شخص جلهم من النساء والأطفال خرجوا يوم الإثنين، من قرية الباغوز إلى مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية، التي أقامت مخيمات لا تتوفر فيها مقومات الحياة الأساسية". وأضافت أن "الأوضاع في هذه المخيمات، خصوصاً الهول في ريف الحسكة، كارثية"، مضيفة أنه "توفي أطفال نتيجة البرد". مع العلم أن مخيم الهول يضمّ آلاف الناجين من معارك دير الزور الشرقي، من بينهم عائلات عراقية كانت تقطن هذا الريف، وعائلات مسلحين من تنظيم "داعش".
من جهتها، كشفت مصادر في "قوات سورية الديمقراطية"، أنه "لا يزال هناك ما بين 500 و600 مسلح من تنظيم داعش داخل بلدة الباغوز، إضافة إلى مئات المدنيين الذين يتخذ منهم التنظيم دروعاً بشرية". ولكن يبدو أن التحالف الدولي لا يكترث كثيراً بالأمر، لعمله على تعجيل الحسم، تحديداً بعد حديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن أن "الولايات المتحدة ستسيطر قريباً على 100 في المائة من المناطق التي يسيطر عليها داعش في سورية"، في إشارة إلى قرب حسم المعارك في منطقة شرقي الفرات.
وقضمت "قوات سورية الديمقراطية" بصورة بطيئة، وقد تكون مقصودة، الجيب الجغرافي الذي كان "داعش" مسيطراً عليه بمحاذاة نهر الفرات من الجهة الشمالية، ويمتد لنحو 40 كيلومتراً، من قرية البحرة غرباً إلى مشارف مدينة البوكمال على الحدود السورية-العراقية شرقاً، وبعمق 10 كيلومترات. وسيطرت هذه القوات منذ بدء المعركة في 10 سبتمبر/أيلول الماضي، على أغلب بلدات وقرى الجيب، بما فيها هجين، التي كانت معقلاً بارزاً للتنظيم، ولكنها اصطدمت أخيراً بالباغوز التي حصّنها التنظيم. وفي مواجهاته اعتمد "داعش" استراتيجية الاستشراس بالدفاع عن معاقله، من دون الاكتراث بمدنيين أو بمبانٍ، وقد فعلها سابقاً في سورية، تحديداً في مدينة الباب في ريف حلب الشمالي الشرقي أمام فصائل المعارضة السورية، وفي مدينة الرقة، وفي ريف الحسكة الجنوبي وخاصة بلدة مركدة.
وذكرت شبكات أخبار محلية أن "التنظيم لا يزال يشنّ هجمات معاكسة على قوات سورية الديمقراطية التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، معتمداً على الصواريخ الموجهة والعربات المفخخة". وأوضح رئيس تحرير موقع "الشرق نيوز" فراس علاوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الباغوز قرية صغيرة لا يتعدى عدد سكانها العشرة آلاف نسمة، وهي منقسمة إلى جزءين: الباغوز الفوقاني والباغوز التحتاني؛ وهي تتبع ناحية سوسة في منطقة البوكمال في محافظة دير الزور". وأشار إلى أن "نهر الفرات يفصلها عن مدينة البوكمال"، مضيفاً أن "الباغوز قريبة جداً من الحدود السورية-العراقية، ومن هنا تنبع أهميتها، وهي محصنة بالنهر وبجبل قربها اسمه كفا الباغوز".
من جانبه، رأى المحلل العسكري العميد أحمد رحال أن "هناك شيئاً ثميناً في الباغوز يتفاوضون عليه"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "منهم من تحدث عن شخصيات مهمة ومنهم من تحدث عن كميات من الذهب المسروق من العراق وسورية". وأردف أن "صمود مسلحي تنظيم داعش أمر وارد، فالقتال بتكتيك الحصار الكامل يجعل من المدافع بطلاً لأن لا خيار له سوى بالقتال".
وذهبت مصادر مطلعة إلى القول إن "هناك أسباباً سياسية وراء عدم استعجال حسم المعركة، إذ لم تُرتّب بعد أوراق المنطقة بعد دحر تنظيم داعش"، مضيفة أن "قوات سورية الديمقراطية تخشى تضاؤل دورها بعد انتهاء مهامها الرئيسية، وهي قتال تنظيم داعش في منطقة شرقي الفرات. ومن هنا تحاول إطالة أمد المعركة للحصول على ضمانات أميركية بعدم تركها لقوات النظام أو الجيش التركي عقب انسحاب القوات الأميركية من سورية، والذي لن يتأخر". ولفتت المصادر إلى "احتمال وجود زعيم داعش أبو بكر البغدادي في منطقة الباغوز"، لافتة إلى "تسرّب خبر منذ أيام عن استدعاء فرقة الكوماندوس الأميركية التي قتلت أسامة بن لادن، إلى ريف دير الزور الشرقي. ما يشي بأن هناك معلومات عن وجود البغدادي في الشرق السوري".
وفي حين تحولت السيطرة على قرية الباغوز إلى مسألة وقت، يدعو مراقبون إلى عدم الاستعجال بالحديث عن نهاية "داعش"، أخذاً في الاعتبار حقيقة أن للتنظيم جيوباً جغرافية تضم خلايا نائمة و"ذئاباً منفردة"، تحديداً داخل البادية مترامية الأطراف غير بعيدة عن قاعدة التنف التي أقامها التحالف الدولي، ومنطقة الـ 55 كيلومتراً المحيطة بالقاعدة والمحرمة على قوات النظام والتنظيم، على الحدود السورية-العراقية.