ازدحم اليوم الأول لاستفتاء التعديلات الدستورية في مصر، أمس السبت، بالمخالفات الممنهجة الواضحة للعيان في جميع أنحاء الجمهورية، بهدف تضخيم نسبة المشاركة على غير الواقع الذي اتسم بانخفاض الإقبال في معظم اللجان، ورفع نسبة التصويت بتأييد التعديلات، والتصدي لحملة القوى المعارضة التي دعت إلى المشاركة والتصويت بالرفض. وترافقت المخالفات مع تعتيم إعلامي رسمي ومنع الصحف والمواقع المصرية من نشر تفاصيل أي تجاوزات أو شكاوى، مع التركيز على إيهام الرأي العام بالإقبال الكثيف على لجان الاقتراع، في غياب تامّ لرقابة المجتمع المدني وانخفاض قياسي في عدد المنظمات المحلية والدولية التي تتابع سير الاستفتاء. وتقضي التعديلات الدستورية بمدّ الفترة الرئاسية من أربع إلى ست سنوات، وتطبيق المدّ بأثر رجعي على الولاية الحالية للرئيس عبد الفتاح السيسي، بحيث تنتهي في عام 2024 بدلاً من عام 2022، وترشحه مجدداً لولاية ثالثة تنتهي في عام 2030، فضلاً عن إنشاء مجلس أعلى للهيئات القضائية برئاسته، والتوسع في المحاكمات العسكرية للمدنيين، وإضافة "حماية مدنية الدولة" و"صون الدستور والديمقراطية" إلى اختصاصات القوات المسلحة.
وذكرت المصادر القضائية أنه نظراً للإقبال الكثيف من هؤلاء الوافدين على لجان بعينها، تم تعطيل العمل ببعضها لفترة من الوقت، بسبب رفض القضاة دخول الناخبين للتصويت بشكل جماعي، تحت رقابة أشخاص يبدو أنهم يشرفون على عملية جلب هؤلاء الناخبين للّجان، وغير معروفي الانتماء بالنسبة للقضاة، لكنهم كانوا حاضرين وبصحبتهم وحدات للتصوير التلفزيوني والبثّ الإذاعي.
وتتكامل هذه الرواية مع أخرى أفاد بها مصدر في وزارة الكهرباء بمركز ملوي في محافظة المنيا، قائلاً إن تعليمات صدرت لموظفي المرفق على مستوى المحافظة، بالانتقال بواسطة حافلات شركات توزيع الكهرباء إلى محافظات أخرى من بينها الفيوم والقاهرة والجيزة للتصويت باعتبارهم وافدين، على أن يكرروا التصويت في مقارّهم الانتخابية الأصلية في ما بعد، خلال اليومين المتبقيين من فترة الاستفتاء.
كما تكرر الأمر نفسه بالنسبة للمعلمين، إذ قال مصدر في مديرية التربية والتعليم بمحافظة القليوبية إن حافلات مستأجرة من شركات سياحة بواسطة قيادات حزب مستقبل وطن المدار بواسطة المخابرات العامة، نقلت مئات المعلمين في يوم عطلتهم الأسبوعية (السبت) للتصويت كوافدين بمحافظة القاهرة القريبة، على أن يعودوا للتصويت في لجانهم الأصلية في ما بعد.
وحصيلة هذه الروايات، أن النظام سيستطيع من خلال تصويت الوافدين إحداث زيادة ضخمة في نسبة المشاركة، ولا سيما أن أيّ عملية لمراجعة كشوف الوافدين ومطابقتها بالكشوف الأصلية لجداول الانتخاب ستستغرق شهوراً طويلة، نظراً لأن جداول الوافدين تكتب بخط اليد داخل اللجان، ولا تسجل على قاعدة بيانات إلكترونية تمكن الهيئة الوطنية للانتخابات أو أيّ جهة أخرى من تصفية الأسماء المكررة واستبعاد الأصوات.
كما أن قرار دمج أصوات الوافدين مع الناخبين الأصليين، سيجعل من المستحيل عملياً إيجاد الأصوات المكررة واستبعادها، إذا حدث واكتشف أحد القضاة المشرفين هذا التكرار. وبالتالي سيكون القاضي أمام خيارين؛ أولهما إلغاء الصندوق بالكامل لشكّه في المحتويات، أو تسيير الأمر بمشاكله وشكوك بطلانه.
وإلى جانب تكرار التصويت، برزت في شوارع العاصمة والأقاليم المحيطة باللجان الانتخابية ظاهرة توزيع "كوبونات حقائب الموادّ الغذائية". وانتشرت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي صور توضح حصول الناخبين عليها بعد خروجهم.
ورصد "العربي الجديد" عدة عمليات رشى انتخابية في هذا الصدد، بمناطق الأزهر والحسين وباب الشعرية والبساتين، والكوم الأخضر بالهرم وبولاق الدكرور.
وتم تنفيذ جميع العمليات بذات الشكل تقريباً، إذ تبدأ عملية الرشوة بتسخير سيارات وحافلات صغيرة "ميكروباص" لنقل الناخبين من منازلهم إلى مقارّ اللجان في جماعات، حيث يستقبلهم بعض المنتمين لحزب مستقبل وطن ومساعدي رجال الأعمال المنضوين في حملة الترويج للتعديلات الدستورية، ويتم "قطع بون مرقّم" لكل ناخب، وعند خروجه من باب اللجنة الآخر، يتم توجيهه لعربة أخرى تكدس بها حقائب وكراتين الموادّ الغذائية، ليسلم "البون" ويحصل على الحقيبة أو الكرتونة مباشرة.
اللافت للنظر أنه في الاستحقاقات الانتخابية السابقة في عهد السيسي، كانت تتم هذه الممارسات والرشى بعيداً عن محيط اللجان خوفاً من كشفها أو رصدها بواسطة الإعلام، لكن سيطرة السيسي وأجهزته المطلقة على الإعلام المحلي أدّت إلى تحول هذه الظاهرة إلى العلن، إذ باتت تمارس بصورة عادية غير مستترة.
ورصد "العربي الجديد" اختلاف محتويات حقيبة الأغذية، محلّ الرشوة، من مكان لآخر حسب إسهام رجال الأعمال وأعضاء حزب مستقبل وطن والمستوى الاقتصادي للمنطقة. واشتملت جميع الحقائب على أرزّ ومكرونة وزيت وسكر، بينما اشتملت الحقائب في الهرم على عنصر إضافي هو الشاي.
وإلى جانب رشوة الأغذية، وهي الأكثر انتشاراً بمناسبة قرب حلول شهر رمضان، ظهرت رشى أخرى مالية مقابل المساعدة في توزيع الرشى الغذائية وتسهيل حركة أذرع الحزب الميدانية.
وقال سائق حافلة خاصة في الجيزة في حديث مع "العربي الجديد"، إن عضواً بالحزب (وصفه بحزب السيسي) طلب منه مصاحبته يوماً كاملاً لإحضار المواطنين إلى إحدى لجان منطقة بين السرايات الشعبية جنوب الدقي، مقابل 200 جنيه، وبواقع 600 جنيه في أيام الاستفتاء الثلاثة.
من جهتها، أفادت طالبة في كلية التجارة بجامعة القاهرة، تعمل في مجال تنظيم الحفلات والمناسبات العامة، أن بعض أمانات حزب مستقبل وطن استعانت بشركات تنظيم الحفلات لـ"توريد عشرات الفتيات حسنات المظهر"، للمساعدة في توجيه الناخبين ببعض المناطق مقابل مبالغ تتراوح بين 100 و200 جنيه يومياً.
ولم تقتصر "الحالة المهرجانية" حول اللجان بالطبع على الرشى الانتخابية، بل تكررت كعادة الاستحقاقات في عهد السيسي مشاهد الرقص والطبل والزمر على إيقاع "الدي جي"، لكن ما استجد هذه المرة هو استخدام شبه منتظم في اللجان الكبرى للشاشات العملاقة ذات الحجم السينمائي لبثّ الأغاني الشعبية والحماسية المؤجرة من شركات تنظيم الحفلات، ما يضمن زيادة الأطراف المنتفعة مالياً من الاستحقاق بغضّ النظر عن موضوعه ونتائجه.
وعمد القائمون على حزب مستقبل وطن إلى إذاعة إعلانات تدعو المواطنين للتصويت، لتأييد الاستفتاء على أبواب معظم اللجان، بالمخالفة لقانون مباشرة الحقوق السياسية وقرارات الهيئة الوطنية للانتخابات، التي تحظر الدعاية في محيط اللجان الانتخابية، لكنها لا تعطي المشرفين أيّ فرصة للتحكم في ما يجري خارج باب اللجنة.
وكان لافتاً للنظر خلال أحداث اليوم الأول للاستفتاء، غياب ممثلي منظمات المجتمع المدني عن معظم اللجان، بحسب المصادر القضائية، إذ تبين أن الهيئة الوطنية للانتخابات لم توافق على التصريح إلا لأربع منظمات دولية ضعيفة المستوى والأهمية، ونحو 60 منظمة مصرية جميعها موالية للسلطة.
أما عن التغطية الإعلامية، فقد انتشر خارج اللجان عناصر أمنية بملابس مدنية تنتمي للأمن الوطني، لرصد المراسلين الصحافيين ومنعهم من التواصل مع نشطاء حزب مستقبل وطن والمواطنين.