طرابلس اللبنانية تلملم جراحها: تحايل على الفقر والحياة

طرابلس
ريتا الجمّال (العربي الجديد)
ريتا الجمّال
صحافية لبنانية. مراسلة العربي الجديد في بيروت.
01 مايو 2020
219B2D15-6625-4DB1-937C-8A2CC537B6D5
+ الخط -
شعور غريب ينتاب زائر ساحة عبد الحميد كرامي (ساحة النور) في عاصمة شمال لبنان طرابلس، التي اكتسبت، منذ انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لقب "عروس الثورة"، فلم تخذلها منذ اليوم الأول رغم ما تعرضت له من قمع استؤنف في الأيام الأخيرة.

الحال في الساحة، التي لا تفرغ من الناس، حتى بعد ليل ساخن من المواجهات مع القوات الأمنية سقط ضحيتها الشاب العشريني فواز السمّان وعشرات الجرحى، لا يختلف كثيراً عما يجري في الشوارع القريبة والبعيدة. لا خيار أمام أهالي المدينة سوى أن يستيقظوا في الصباح الباكر للملمة جراحهم والنضال من أجل العيش.

في الأسواق الشعبية زحمة مواطنين يتفرجون ولا يشترون، وباعة متجولون سلّتهم خالية، وسيارات أجرة من دون ركّاب، وأصحاب محال يقفون خارجاً ينادون الزبائن للدخول فـ"البضائع بأرخص الأسعار"، وكبار في السنّ لا يعرفون التقاعد ينزلون الى الشارع بحثاً عن لقمة العيش، تماماً كحال سليم أحمد إيعالي، وهو سائق سيارة أجرة "سيرفيس" يتّكئ لساعات على باب سيارته بانتظار راكب واحد يعطيه ألف ليرة لبنانية (0.28 دولار بسعر السوق، فيما يوازي السعر أقل من نصف دولار وفقاً للسعر الرسمي) أجرة التوصيلة، بينما التسعيرة في بيروت ألفا ليرة.

استوقفنا في الجولة، رجل عجوز، عرّف عن نفسه باسم محمد بالي السراج، بينما كان يجر عربة بصعوبة للوصول الى محله الصغير. يقول السراج، لـ"العربي الجديد"، إن "طرابلس هي أم الفقراء، الكرامة، العيش الواحد، العطاء والحب". تجاوز عمره الستين ولا تزال مطالبه نفسها منذ عشرات السنين. ولا يتردد في الطلب من شباب طرابلس، في ظل "الانقلاب المالي على الشعب المسكين"، أن يكونوا العلماء الذين يبنون مدينتهم، فهذه أرضهم وعليهم المحافظة عليها. وبالنسبة لأهالي طرابلس، التي تفوح منها اليوم رائحة النضال والانتفاضة بدل البرتقال والليمون، لا ثقة بالسياسيين والحكومة، وهو ما دفعهم قبل أيام لكسر حاجز الخوف من فيروس كورونا، والخروج إلى الشارع مجدداً اعتراضاً على الفساد المالي والسياسي والمصرفي والغلاء الفاحش، بعدما بات الفقر، الذي اعتادوا عليه لعقود، فوق طاقة احتمالهم.


حرق المحتجون عدداً من المصارف في طرابلس (حسين بيضون)




يقول سركيس كيزانا، لـ"العربي الجديد"، إن "الشعب ميّت ميّت"، وهو لم يعد يخاف الموت من الجوع أو من وباء عالمي مثل كورونا، وقد خسر ماضيه، وحاضره ومستقبله غامض ومجهول وبات على شفير الهاوية، لكنه يتمسّك بالأمل لبناء دولة يعيش فيها أبناؤها بكرامة، وهذا ما يدفعه للنزول الى الساحات ورفع الصوت عالياً بوجه الدولة بأطيافها كافةً، والتصدّي لأي تدخلات سياسية لحرف مسار التحركات، إذ إنّ الطرابلسي فقد ثقته بالدولة والقوى السياسية مجتمعةً. ويضيف "أنا شخصياً لا أحبّذ أعمال الشغب والعنف، ولكن هل عاش أحد من المنتقدين يوميات أهل طرابلس؟ هل لمس فعلاً الفقر والمعاناة التي تدفعه إلى العمل ليل نهار لكسب لقمة عيشه بكرامة؟ هل شاهد فتى يعمل بعمر مبكر وعيناه تدمعان عندما يقف أمام باب مدرسة لا يملك والداه ثمن القسط لتعليمه؟ للأسف، حتى في أسوأ فتراتها تبقى الأحكام المُسبقة صادرة بحق طرابلس، التي لا يعرف البعيد منها كيف أنّ الباعة يوزعون الطعام والشراب والحلويات مجاناً في كثير من الأحيان رغم حاجتهم لكل قرش، ويقفون جنباً إلى جنب في السراء والضراء. وحتى أنّ المشاهد تفاجأ من انتفاضة "عروس الشمال"، وصُدِم بجمالها وسلميتها، لأنه اعتادَ على ربط اسم المدينة، ولا سيما إعلامياً، بجولات القتال.


ويوضح أديب نعمة، المستشار الإقليمي السابق في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) وخبير التنمية المستدامة والفقر، لـ"العربي الجديد"، أنّ طرابلس تعتبر الأفقر في لبنان من حيث الحجم، لأن نسب الحرمان يجتمع فيها الفقر مع عدد السكان الكبير، ففي طرابلس الإدارية فقط هناك 250 ألف مقيم، بينما في الهرمل على سبيل المثال، وهي من المناطق المحرومة أيضاً والفقيرة، هناك 30 ألف مقيم. ويكشف نعمة أنّ الطبقات الاجتماعية في طرابلس تتوزع بين 20 في المائة من الطبقة الوسطى، و60 في المائة من الطبقة الفقيرة، و20 في المائة لشبه الفقراء. أما اليوم، وبعد انتشار وباء كورونا العالمي، ونتيجة التعبئة العامة التي فرضت على البلد منذ 16 مارس/آذار الماضي، فمن المرجح أن تكون نسبة الفقر مجتمعة وصلت إلى 80 في المائة. ويوضح أنه في دراسة أجراها في العام 2019، كان هناك 75 في المائة من الطرابلسيين يعملون في قوى عاملة غير مهيكلة، ويمكن الاستناد إلى هذه النسبة من خلال الأسماء المسجلة في الضمان الاجتماعي، أو تعاونية موظفي الدولة، وهي 25 في المائة، كذلك من نسبة الحسابات المالية المصرفية التي قد تصل إلى 25 في المائة فقط، بمعنى أن 75 في المائة من هؤلاء العاملين لا عقود عمل تحفظ حقوقهم ولا تأمين صحيا لهم، ولا حسابات مصرفية، ولا مدخرات، وهم من الفقراء.

ويربط نعمة معدلات الفقر بالاكتظاظ السكاني، والتهميش السياسي على مرّ عشرات السنين، وجولات الاقتتال التي استمرّت حتى العام 2014، خصوصاً بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة (شهدتا 25 جولة عنف ذات بعد سياسي/طائفي بين العلويين والسنة قبل دخول الخطة الأمنية حيز التنفيذ مطلع إبريل/نيسان 2014)، ما خلق حالاً من التوتر زاد من منسوبه الصورة التي يظهرها الإعلام عن طرابلس وطريقة تعامل الجيش اللبناني مع هذه المدينة وكأنها خارجة عن القانون.
وبالنسبة إلى نعمة فإن الانفجار الاجتماعي الذي يترجم اليوم في الشارع ليس مفاجئاً، لا بل أقلّ من المتوقع، خصوصاً بعد خطاب رئيس الحكومة حسان دياب في 16 إبريل الماضي، والذي يحمل تحريضاً على العنف، وسلوك المصارف وعنجهيّتها والإعلانات التي تضعها وسائل الإعلام المرئية للبنوك. هذه العناصر تستفز كلّ إنسان، فكيف حال الفقراء إذن؟ كما يلفت إلى حقيقة أنّ كثرة الزعماء السياسيين في عاصمة الشمال إيجابي لناحية التنوّع، لكنه سلبي جداً، لأن لا أحد منهم ينظر لحال الطرابلسيين وأوضاعهم الاجتماعية ويقف إلى جانبهم لتأمين احتياجاتهم وأبسط حقوق العيش بكرامة.


واللافت أن طرابلس التي تلقب بـ"أم الفقراء" هي الأغنى في لبنان على صعيد الزعماء ورجال الأعمال الذين يتصدرون لائحة الأثرياء، ومن بينهم رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، والوزير السابق محمد الصفدي وغيرهما. وتعد أبرز القوى السياسية فيها، تيار المستقبل الذي يرأسه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الذي كان يستمدّ الجزء الأكبر من شعبيته منها قبل أن يخسر نسبة كبيرة منها في الانتخابات النيابية الأخيرة، بالإضافة إلى محمد كبارة المعروف بـ"أبو العبد الطرابلسي"، إلى جانب الوزير السابق أشرف ريفي الذي انشق عن الحريري محاولاً فرض نفسه كزعيم للمدينة، والنائب السابق مصباح الأحدب الذي خسر ثقة الطرابلسيين أيضاً في الانتخابات النيابية، وفيصل كرامي نجل رئيس الحكومة السابق عمر كرامي.


ساهم السياسيون بانهيار طرابلس اجتماعياً ومعيشياً وأمنياً (حسين بيضون)



أنور خانجي، أحد الناشطين في طرابلس يقول لـ"العربي الجديد" إنه من بين الذين لا يزالون يؤمنون بقلب المدينة النابض، بغض النظر عن كل ما يُحكى من وجود مندسين يفتعلون أعمال شغب، فهل أن غياب هؤلاء يعني أن عاصمة الشمال تعيش أياماً مزدهرة وبحبوحة مادية؟ فبدل أن يرمي المسؤولون التهم باتجاه بعضهم البعض ويوهمون الناس بدخول جهات صفوف المتظاهرين السلميين، فليعترفوا بفشلهم في الوقوف إلى جانب طرابلس، ومساهمتهم جميعاً من دون استثناء بانهيار هذه المدينة، اجتماعياً ومعيشياً وأمنياً، في مراحل ماضية، والتي "للمضحك المبكي" تضمّ أغنى أغنياء لبنان من زعماء وسياسيين ورجال أعمال لا يتذكرون "أم الفقير" إلّا في الاستحقاقات. ويعتبر أن تدخل جهات سياسية في تحركات الناس أمر متوقع بعد خسارة شعبيتها وثقة الناس بها، التي لن تنتخب أحد منها في الانتخابات المقبلة، ولكن حضورها يبقى خجولاً لأنّ المنتفضين اليوم هم الجائعون والعاطلون عن العمل والفقراء.

ويشير خانجي إلى أنّ ربط التحركات أمام المصارف بتنفيذ أجندات حزبية، بعيد عن الحقيقة، لأنّ تحطيم فروع البنوك وتكسير واجهاتها ما هو إلا ردّ فعل على أفعال غير مبرّرة يقوم بها القطاع المصرفي، أشعلت الغضب في نفوس الناس، ليس فقط في طرابلس، بل على صعيد لبنان. ويتساءل كيف على من يريد أن يسحب مبلغاً من ماله الخاص لإجراء عملية جراحية، ويتعذّر عليه ذلك، أن يتعاطى مع الموضوع بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الأزمة؟ وكيف يجب أن يتصرّف من يملك وديعة بالعملة الخضراء (الدولار) في المصرف ويُحرَم من سحبها الّا بالليرة اللبنانية، فيخسر من قيمتها مقابل غلاء مخيف لا تحتمله طرابلس؟ هذه المدينة لا يمكن أن تتعايش مع الغلاء، فهي اعتادت على بيع الخضر واللحوم والثياب والأكسسوارات وغيرها بأسعار رخيصة. ألا تكفي كل هذه الأسباب للنزول إلى الشارع وترجمة الغضب فيه؟ يسأل خانجي.

المواطن محمد جمال الحسين، أحد المتضررين من الإجراءات الجديدة التي أعلنها مصرف لبنان، لم يتردد في السؤال بحرقة بينما كانت يداه ترتجفان، "هل يعقل أن استلمَ مالاً أرسل لي من الخارج عبر شركة تحويل أموال بالدولار الأميركي لأستلمه بالليرة اللبنانية تبعاً لتعميم مصرف لبنان الأخير وفق سعر صرف 3200 ليرة الذي حدّده للصرافين (سعر الصرف الرسمي 1515 ليرة)، بينما وصل سعر الصرف في السوق الموازية والسوداء إلى 4200 ليرة؟ ولماذا يقومون بتدوين المبلغ بالدولار بينما أقبضه بالعملة الوطنية؟ وعندما واجهت الشركة طُلِبَ مني الخروج وحاول أحدهم تمزيق الوصل! لذلك، لا يجب أن يلومنا أحد على ردود فعلنا، ونحن نتعرض يومياً للذل من أجل نيل أبسط الحقوق التي نهبت منّا.

وبالتزامن مع كلمة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ظهر أول من أمس الأربعاء، والتي حاول فيها الدفاع عن نفسه، رافضاً تحميله المسؤولية عن السياسات المالية المتبعة طوال العقود الماضية بوصفه يتولى منصبه منذ العام 1993، كانت المصارف تلملم بقايا زجاج واجهاتها المتناثر أرضاً، وتُدعّم أبوابها بالحديد. وحرص عدد من الطرابلسيين على الاستماع إلى كلمة سلامة، التي بثتها وسائل الإعلام، من محالهم التجارية، لكنّهم شعروا بالخيبة مرّة جديدة لأنّ الاطلالة لم تكن على قدر التوقعات، وفيها مبررات رقمية وتقنية لن يفهمها قسم كبير من الشعب اللبناني، الذي يحتاج لشخص يتحدّث لغته ويطمئنه ميدانياً من خلال التعاملات المصرفية التي تحترم المواطن وتعيد إليه ودائعه المحتجزة. فكانت عودة المنتفضين ليلاً إلى الساحات، التي شهدت جولة جديدة من المواجهات لم تطفئها محاولات حاكم مصرف لبنان في طمأنة اللبنانيين.

ورفع سلامة مسؤولية المصرف المركزي عن الأوضاع الراهنة، التي يتحمّلها على حدّ تأكيده الأداء الحكومي ونفقات الدولة، ودفع أكثر من 4 مليارات دولار على واردات غير معروفة الوجهة. وأكد سلامة، الأربعاء الماضي، "أننا دفعنا بالدولار عن الدولة مبلغ 16 مليار دولار، على أمل استرداد هذا المبلغ. وعودة هذه المبالغ تغير وضعية ميزانية مصرف لبنان وقدراته للتدخل في السوق". ولفت إلى أن 60 في المائة من الدين العام بالليرة اللبنانية يتحمله مصرف لبنان، عبر سندات الخزينة. وأضاف "نحن لسنا الوحيدين الذين مولنا الدولة، وإنما القطاع المصرفي أيضاً مولها، والمؤسسات الدولية وبيوت المال العالمية عبر شراء اليوروبوند، ومؤتمرات باريس المتتالية. كل ذلك مقابل وعود الإصلاح التي لم تترجم لأسباب سياسية. ووجدنا فراغات في سدة رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، وتعطيل أعمال مجلس النواب".

وكان لافتاً الحركة السياسية المحلية والدولية، والتي انخرطت فيها بشكل مباشر السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيه قبيل إطلالة حاكم مصرف لبنان التي ردّ فيها بالأرقام على رئيس الحكومة حسان دياب. حيث إن الهدوء في كلمة سلامة، رغم التلميحات السياسية، أتى بعد دخول وسطاء على الخطّ لتبريد الأجواء بين سلامة ودياب، بعدما شنّ رئيس حكومة لبنان هجوماً عنيفاً على حاكم مصرف لبنان يوم الجمعة الماضي، اعتبر فيه أن المعضلة تكمن في أن هناك غموضاً مريباً في أداء سلامة، والبنك المركزي إما هو عاجز أو معطل بقرار، أو محرض على التدهور الدراماتيكي للعملة الوطنية.

ذات صلة

الصورة
أنشطة ترفيهية للأطفال النازحين إلى طرابلس (العربي الجديد)

مجتمع

أطلقت منظمات وجمعيات أهلية في مدينة طرابلس اللبنانية مبادرات للتعاطي مع تبعات موجة النزوح الكبيرة التي شهدتها المدينة خلال الفترة الأخيرة.
الصورة
دمار جراء غارات إسرائيلية على بعلبك، 25 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات دموية على مناطق عدّة في محافظة بعلبك الهرمل اللبنانية أدت إلى سقوط عدد كبيرٍ من الشهداء والجرحى وتسجيل دمار كبير
الصورة
غارة جوية على قرية الخيام جنوب لبنان، 3 أكتوبر 2024 (فرانس برس)

سياسة

يكثّف جيش الاحتلال الإسرائيلي من سياسة تدمير المربعات السكنية ونسفها في جنوب لبنان على غرار الاستراتيجية التي يعتمدها في غزة منذ بدء حربه على القطاع
الصورة
آلية عسكرية إسرائيلية قرب حدود قطاع غزة، 6 أكتوبر 2024 (ميناحيم كاهانا/فرانس برس)

سياسة

شهر أكتوبر الحالي هو الأصعب على إسرائيل منذ بداية العام 2024، إذ قُتل فيه 64 إسرائيلياً على الأقل، معظمهم جنود، خلال عمليات الاحتلال في غزة ولبنان والضفة.