لم تكد تمضي أيام على إنشاء تشكيل عسكري يضم تنظيمات متطرفة في الشمال الغربي من سورية، حتى بادرت "هيئة تحرير الشام" إلى اعتقال أبرز مؤسسيه، وهو أبو مالك التلي، على الرغم من أنّ الأخير كان من أبرز القيادات في هذه الهيئة التي تضع يدها على القرارين السياسي والعسكري في محافظة إدلب ومحيطها، ومن الواضح أنّ اهتمامها ينصب في الوقت الراهن على وأد أي محاولة يمكن أن تشكّل تهديداً عليها، في ظلّ سعي هذه الهيئة إلى تعويم نفسها.
واعتقلت قوة من "هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) أبو مالك التلي، الاثنين الماضي، بعد مداهمة منزل يقيم فيه في ناحية سرمدا بريف إدلب الشمالي، واقتادته إلى جهة مجهولة، وفق مصادر محلية أشارت بحديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ عملية الاعتقال تمّت بشكل مفاجئ.
وأرجعت "لجنة المتابعة المركزية" في "هيئة تحرير الشام"، من جهتها، سبب الاعتقال إلى محاولة التلي "إضعاف الصف وتمزيق الممزق"، مشيرةً في بيان لها إلى أنّ "الانشقاقات لا تأتي بخير، بل هي فتح باب شر وتوهين". وتابعت: "التلي منذ فترة طويلة يسعى للخروج من الجماعة لتشكيل فصيل خاص، وقد ناقشناه واستوعبناه إلى الدرجة التي نستطيع، لأننا لا نريد له سلوك سبيل الفرقة، واستطعنا أن نبقيه بيننا مدة ليست بالقصيرة، حتى قرر الخروج، فأرسلنا له محذرين". وأصدرت "هيئة تحرير الشام" الإثنين، تعميماً منعت من خلاله أعضاء الهيئة (قادة وجنداً) ما سمته بـ"مفارقة الجماعة قبل مراجعة لجنة المتابعة والإشراف العليا"، مشيرةً إلى أنه "يحظر على الأخ التارك تشكيل أي تجمع أو فصيل مهما كانت الأسباب". كما منعت "الأخ التارك" من الانتماء إلى أي تشكيل أو فصيل قبل مراجعة اللجنة المذكورة.
وكان التلي الذي يتزعم تنظيم "لواء المقاتلين الأنصار"، أعلن مع قادة تنظيمات متطرفة أخرى أخيراً، عن تشكيل غرفة عمليات جديدة في الشمال الغربي من سورية حملت عنوان "فاثبتوا"، ضمت خمسة فصائل هي "تنسيقية الجهاد"، "لواء المقاتلين الأنصار"، جماعة "أنصار الدين"، جماعة "أنصار الإسلام"، وتنظيم "حراس الدين".
في السياق، أوضح الباحث في الشأن السوري، أحمد أبا زيد، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ اعتقال التلي "جاء بعد أيام من اعتقال أبو صلاح الأوزبكي، وهو أيضاً من قادة غرفة فاثبتوا"، مشيراً إلى أنّ هذه الغرفة "جمعت التنظيمات والشخصيات الجهادية المنشقة عن الهيئة والناقمة على سياستها، خصوصاً في تطبيقها لمخرجات مسار أستانة وحماية الدوريات التركية الروسية المشتركة، وتخلي الهيئة عن الأيديولوجيا السلفية الجهادية لصالح إثبات الاعتدال والبحث عن شرعية خارجية".
وتابع أبا زيد: "الهيئة وجدت في تشكيل غرفة فاثبتوا تهديداً لها، فهي تحاول تفكيك أي تجمع للتيار الجهادي في إدلب، أو ضمه تحت جناحها وخطوطها الحمراء". وأشار إلى أنّ هناك أسباباً أخرى وراء اعتقال التلي، موضحاً أنّ هناك "ملفات مالية عالقة بين الأخير وهيئة تحرير الشام". وأضاف أنّ "أبو مالك التلي يدير العديد من المشاريع الاقتصادية في إدلب، ويبدو أنّ الهيئة طالبته بتسليمها إضافة إلى تسليم أموال متعلقة بصفقات الإفراج عن المخطوفين حين كان أميراً لجبهة النصرة في القلمون".
أصدرت غرفة عمليات "فاثبتوا"، الاثنين، بياناً علقت من خلاله على اعتقال أبو مالك التلي، وأبو صلاح الأوزبكي وآخرين، من قبل "هيئة تحرير الشام". وطالبت الغرفة بـ"الإفراج الفوري عن التلي والأوزبكي، وجميع المعتقلين، والتوافق على قضاء مستقل، يفصل في ما يثار من دعاوى مزعومة، بعيداً عن التسييس وتصفية الحسابات، وإلا فليتحمل من اعتدى وبغى نتائج الأمور في الدنيا والآخرة"، وفق البيان. وذكرت الغرفة أنها "فوجئت منذ تشكيلها باستفزازات متكررة من قِبَل هيئة تحرير الشام".
إلى ذلك، بيّنت مصادر مطلعة على شؤون التنظيمات المتشددة في سورية لـ"العربي الجديد"، أنّ "هيئة تحرير الشام بصدد تشكيل غرفة عمليات جامعة ومجلس عسكري موحد في شمال غربي سورية"، موضحةً أنّ "التلي شخصية قيادية مؤثرة لم تجد الهيئة أمامها إلا اعتقاله، كي لا يقف حجر عثرة أمام محاولات الهيئة التفرد بالقرار في محافظة إدلب".
وكان جمال زينية، والملقب بأبو مالك التلي، أعلن انشقاقه عن "الهيئة" في إبريل/نيسان الماضي، في بيان أشار فيه إلى أنّ سبب ابتعاده عنها هو جهله وعدم علمه ببعض سياساتها أو عدم قناعته بها، و"هذا أمر فطري، فقد جُبل الإنسان على حب المعرفة"، بحسب تعبيره. وشكل التلي مع قياديين آخرين انشقوا عن "هيئة تحرير الشام"، "لواء المقاتلين الأنصار" الذي يتبنى فكر السلفية الجهادية، ويعارض الوجود التركي في محافظة إدلب ومحيطها، وهو الأمر الذي دفع التلي إلى ترك صفوف "هيئة تحرير الشام" التي سهّلت انتشار آلاف الجنود الأتراك في أكثر من 40 نقطة عسكرية في محاولة منها لتعويم نفسها سياسياً، باعتبارها جزءاً من أي حلّ سياسي مقبل يخصّ محافظة إدلب.
وينحدر التلي (52 عاماً) من بلدة منين في ريف دمشق الشمالي. وقد ظلّ لسنوات أمير "جبهة النصرة" في القلمون الغربي في ريف دمشق الشمالي الشرقي. وعُرف في وسائل الإعلام في عام 2014، إبان أزمة راهبات كنائس معلولا في ريف دمشق الشمالي الشرقي، اللواتي أُخذن أسيرات من قبل "جبهة النصرة"، وأُطلق سراحهن ضمن صفقة مع النظام، اشتركت فيها أطراف عربية وإقليمية. وفي عام 2017، عقدت "جبهة النصرة" مع النظام السوري و"حزب الله" اللبناني، اتفاقاً بعد سنوات من الحرب بين هذه الأطراف في القلمون الغربي، انتقل بموجبه التلي وعناصر الجبهة إلى محافظة إدلب في شمال غربي سورية، ليكون واحداً من قيادات "هيئة تحرير الشام". وتعرّض التلي منذ ذاك الحين لمحاولات اغتيال عدة، أدّت إحداها إلى مقتل ابنه.