أجبرت فتيات كثيرات في منطقة شمال غربي سورية على الانقطاع عن التعليم بسبب الحرب والوضع غير المستقر. وعزز ذلك نزوح عدد كبير من العائلات من قراها، ما حرم نسبة من الفتيات، كنّ في مرحلة التعليم الأساسي بين عامي 2013 و2017، من حق التعليم، حين شهد الوضع توترات أمنية كبيرة.
ومنع الخوف من الإجراءات المتشددة، التي فرضتها تنظيمات متطرفة سيطرت على المنطقة، الأهالي من السماح لبناتهن بالذهاب إلى المدارس، وجعلهم يستبعدون التعليم من أولويات تربية أبنائهم، خصوصاً الفتيات. وفضل آباء كُثر تزويج بناتهن على منحهن فرصة إكمال تعليمهن. وحطم هذا الواقع آمال فتيات كثيرات متفوقات في إكمال تعليمهن وبلوغ مكانة اجتماعية تتوافق مع طموحاتهن في التعبير عن إمكاناتهن الشخصية.
تكشف فاطمة المتحدرة من قرية معر دبسة في ريف إدلب الشرقي، والتي لم تتجاوز 17 عاماً، أنها منقطعة عن الدراسة منذ ثلاث سنوات بسبب ظروف الحرب والتهجير وزواجها المبكر الذي أنهى أحلامها. تقول: "بعد استقرار الوضع الأمني وعودة التلاميذ إلى مقاعد الدراسة، حاولت إقناع زوجي بالسماح لي بإكمال تعليمي، لكنه رفض ذلك بشكل قاطع بسبب تعصبه الديني، وتحججه بأن ذهابي إلى المدرسة سيجعلني أختلط بالذكور. وحاول إقناعي بالالتحاق بمعاهد شرعية ودور لتحفيظ القرآن، بدلاً من الحصول على شهادة التعليم الأساسي. وناقضت ذلك عودة معظم صديقاتي إلى متابعة الدراسة، ما خيّب أملي وأنهى مسيرة تعليمي، علماً أنني كنت من بين المتفوقات، وامتلكت رغبة كبيرة في متابعة الدراسة، وأردت أن أصبح معلمة أو طبيبة أطفال أو مرشدة نفسية، لكن أحلامي تبخرت إثر إرغامي على الزواج من رجل متشدد، حوّل حياتي إلى مجرد واجبات وأوامر أنفذها بلا اعتراض، وأفقدني حقوقي". وتنصح فاطمة كل الفتيات القادرات على التعلم بإكمال مسيرتهن، والكفاح لتحقيق هدف الحصول على شهادات عالية تحمي كرامتهن وترفع من قيمتهن الاجتماعية، وتفرض احترام المجتمع المحيط لهن.
ومثل كثيرات حرمن من حق التعليم، لم يُدخل أهل راما، البالغة 16 من العمر والمتحدرة من مدينة الدانا بمحافظة إدلب، ابنتهم المدرسة، وأجبروها على الذهاب إلى معاهد شرعية لتعلم القراءة والكتابة. وتتهم راما أهلها بعزلها عن العالم الخارجي بحجة خوفهم من الوضع الأمني، مؤكدة أنها امتلكت رغبة شديدة في الالتحاق بمدرسة مثل باقي الفتيات، و"هو ما يدفعني اليوم للتحدث عن معاناتي، وطلب المساعدة في القيام بحملات توعية للأهالي عن ضرورة التعليم". وتشير إلى أن "منظمات أطلقت برامج لمحو الأمية للمتسربين عبر فتح مدارس مجانية لهم بدوام كامل، وتوفير كادر تعليمي ووضع مناهج خاصة بهم. كما قدمت يدّ العون لتلاميذ في مواجهة الحرب والنزوح والتهجير عبر إعدادهم، خلال فترة زمنية محددة، للالتحاق بمقاعد الدراسة والانضمام إلى الصفوف الخاصة بأعمارهم. لكن بعض الأهالي لم يستجيبوا لهذه المبادرات والتسهيلات، بسبب إسقاطهم التعليم من أولويات تربية أولادهم، خصوصاً الفتيات اللواتي جرى تزويج عدد كبير منهن حين كنً قاصرات، تحت ضغوط الظروف المعيشية القاسية في المنطقة".
وبين قصص مآسي الواقع السائد في الشمال السوري، انقطاع زينب (17 عاماً)، التي اعتبرت من المتفوقات دراسياً، عن التعليم. وتروي: "عشت مع أهلي في مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي التابعة لجبل الزاوية، حيث كنت أذهب برفقة صديقاتي إلى المدرسة رغم ظروف القصف والحرب التي شهدتها المنطقة. والحقيقة أننا كنا سعداء بأنّ مدارس غير مدمّرة ما زالت تجمعنا، رغم قصف عدد كبير منها وتعطل التعليم فيها فترات". تتابع: "كنا نتلقى المعلومات بشغف أكبر من السابق، لأن التعليم بات حلماً شبه مستحيل بالنسبة لنا. لكن النظام السوري استولى على قرى جبل الزاوية وهجر سكانها عام 2020، وتفرق أهل هذه القرى بين مهاجرين إلى الخارج، وسكان نزحوا إلى مخيمات على الحدود، وآخرين مكثوا في أراضٍ زراعية كما حالنا الآن". وتوضح زينب أن عائلتها تنتمي إلى الطبقة المتوسطة في ظل عمل والدها خبازاً في فرن، "لكنّ عمله توقف بعد النزوح، وبات غير قادر على دفع إيجارات البيوت المرتفعة في أماكن يسودها هدوء نسبي، علماً أننا لم نستطع الحصول على إحدى الخيم التي وزعتها المنظمات، فاتخذنا من الأراضي الزراعية مأوى لنا، وهو أمر لم يكن سهلاً في البداية، بعدما تركنا وراءنا كل ذكرياتنا، ولم نحمل حتى كتبنا معنا، لأننا لم نعلم أين سنستقر". وتشير زينب إلى أنها تريد أن تشعر مع عائلتها بالأمان والبقاء على قيد الحياة، وتتابع: "بعدما استقرت عائلتي في المكان الحالي، بدأت شخصياً في البحث عن هدف يعوضني حرماني من إكمال التعليم، فوجدت ضالتي في تدريس أطفال في المنطقة لم تتح لهم فرصة الذهاب إلى المدارس، وجمعت عدداً منهم تتراوح أعمارهم بين 7 و9 أعوام، وشرعت في تعليمهم القراءة والكتابة تحت الشجرة. وبسبب رغبتي الشديدة في تعليمهم، استطعت أن أحوّل فيء الشجرة الى شبه مدرسة يلتزم معظم تلاميذها بالحضور يومياً.
وبعد فترة قصيرة، نجحت في تعليم مجموعة أطفال القراءة والكتابة بشكل جيد، وهو أمر أفتخر به وأعتبره إنجازاً قد يعوضني بعض الحرمان من إكمال دراستي، ويحقق بعضاً من حلمي في هذا المجتمع البائس".
من جهتها، تقول زهرة جدعان، المعلمة في مدرسة للتعليم الأساسي للفتيات: "تراجع مستوى التعليم في محافظة إدلب خلال سنوات الثورة، بالتزامن مع زيادة مرعبة في عدد المتسربين، خصوصاً الفتيات، رغم أهمية متابعة التعليم وتأهيل الفتيات ليصبحن أكثر فعالية في المجتمع". تضيف: "الانقطاع عن التعليم سيخلف جيلاً جاهلاً يفتقر إلى أطباء ومهندسين ومعلمين، لذا، نحن اليوم في كارثة مؤجلة، وسيعم التخلف أنحاء المنطقة، علماً أن عشرة أعوام من الحرب تعني عقداً كاملاً من حرمان الأبناء من التعليم، الذي لا يجب أن يتوقف إذا استمرت الحرب فترة طويلة. وقد تراجع عدد المتسربين هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة، لكن نسبتهم ما زالت مرعبة".
ويتحدث المسؤول الإعلامي في مديرية التربية بإدلب إبراهيم اليسوف عن أن "المديرية لا تملك أي إحصاء عن عدد التلاميذ المتسربين قبل عام 2019، بينما تظهر إحصاءات عام 2020 أن إجمالي عدد تلاميذ مرحلة التعليم الأساسي في المحافظة بلغ حوالى 641 ألفاً، تسرب منهم حوالى 204 آلاف، أي نسبة 31 في المائة، والتي ارتفعت إلى 44 في المائة خلال الفصل الثاني. أما عدد التلاميذ هذا العام، فبلغ 582 ألفاً، تسرّب منهم حوالى 264 ألفاً، أي نسبة 38 في المائة خلال الفصل الأول، والتي انخفضت إلى 36 في المائة خلال الفصل الثاني". ويشير إلى أن "مديرية التربية لا تملك أي إحصاء عن عدد التلميذات الإناث المتسربات".