أطفال الصين في مرارة التحوّل الصناعي

20 أكتوبر 2022
النمط الصيني المستحدث يضحي بالمشاعر الإنسانية لغايات مادية (Getty)
+ الخط -

انتشر شريط فيديو في الصين لطفلة تدعى يان شي وتبلغ من العمر سبع سنوات، وهي تجهش بالبكاء لدى رؤيتها والدها الذي يعمل في مدينة أخرى، عبر مكالمة فيديو نظمتها إدارة حضانة للسماح للآباء بمقابلة أبنائهم ومراقبتهم خلال الفصل الدراسي. وقالت الطفلة في الشريط الذي لم تتجاوز مدته دقيقة واحدة: "يعمل أبي بجدية، ويبدو متعباً ومنهكاً"، ثم انهارت بالبكاء. 
وحين سألت المعلمة الطفلة منذ متى لم تر والدها الذي يعمل كهربائياً في مصنع، أجابت: "لا أبكي لأنني لم أرَ والدي منذ فترة طويلة، بل لأنني قلقة عليه، فهو يبدأ عمله يومياً في الساعة الرابعة صباحاً، ويعمل ساعات إضافية كثيرة، وأنا أريد فقط أن يظل والدي في صحة جيدة".
وجرت مشاهدة الشريط 6.5 ملايين مرة على منصة "دويين" للفيديوهات القصيرة خلال فترة يومين فقط. وعلّق عدد من المشاهدين بالقول إن "قلق الطفلة الصغيرة على والدها كان مؤثراً".
وكانت الطفلة قد أودعت في مركز للحضانة بمقاطعة جيانغسو (شرق)، لقضاء فترة الإجازة الصيفية، بينما يعمل والداها في مدينتين مختلفتين.

قضايا وناس
التحديثات الحية

يقول ليانغ سان (42 عاماً)، الذي يعمل في مصنع لإنتاج الزجاج بمدينة فوشان، جنوبي الصين، بينما تعيش ابنته البالغة من العمر 14 عاماً مع جدتها في مدينة أخرى بعد وفاة أمها حين كانت في عامها الثالث، لـ"العربي الجديد": "ليس سهلاً أن تعيش وتعمل بعيداً عن أسرتك، والأكثر صعوبة أن تترك خلفك طفلة وحيدة حُرمت من حنان وعطف الأم مبكراً. إنها مرارة يومية أعيشها كل لحظة، لكنني مضطر إلى فعل ذلك، فبلا عمل لا يمكن أن أؤمن مستقبلاً جيداً لطفلتي". 
ويوضح أنه حين فقد عمله قبل عامين بسبب الإغلاقات التي شهدتها البلاد في ظل جائحة كورونا، شعر بضعف وعجز لأنه لم يقوَ على توفير المصروف لابنته، ويقول: "مرارة البعد عن بيتي للحصول على عمل، أخف وطأة علي من بقائي مع أهلي من دون عمل".
وكانت الصين قد شهدت مع بداية عصر الإصلاح والانفتاح، وتحديداً منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، نزوحاً جماعياً من القرى والأرياف نحو المدن الصناعية بحثاً عن فرص عمل. وتزامن ذلك مع فرض السلطات سياسات صارمة من أجل تحديد النسل، شملت حرمان الأسر من ميزات الضمان الاجتماعي خارج مساقط رؤوسهم، ما خلّف ملايين الأطفال في القرى بلا رعاية أسرية.
وتفيد بيانات حديثة صادرة عن وزارة العمل الصينية بوجود 286 مليون عامل مهاجر في الصين، يشكلون 20 في المائة من إجمالي عدد السكان البالغ 1.4 مليار نسمة، وأيضاً حوالي 35 في المائة من القوة العاملة في البلاد، وأن مائة مليون بين هؤلاء العمال المهاجرين ينفذون مهمات في مناطق بعيدة عن مساقط رؤوسهم.

تفكك كبير في علاقات الأسر الصينية (هكتور ريتامال/ فرانس برس)
تفكك كبير في علاقات الأسر الصينية (هكتور ريتامال/ فرانس برس)

مسؤولية جماعية
ورداً على سؤال وجهته "العربي الجديد" بشأن تداعيات وتأثير نمط الحياة الجديد في الصين على الترابط الاجتماعي، سواء على مستوى الأسر أو الأفراد، تقول الباحثة الاجتماعية لان جو يان إن "معظم المشاكل التي يعاني منها المجتمع الصيني مردّها الاندماج والانصهار في أنماط جديدة من التعايش غير الإنساني في ظل ظروف عمل جائرة"، وتوضح أن النمط الصيني المستحدث متفرّد تماماً على صعيد التضحية بالمشاعر الإنسانية في سبيل تحقيق غايات مادية، فالأب يجد نفسه مضطراً إلى العيش وحيداً لعدة أشهر أو سنوات من أجل كسب لقمة عيشه، بينما يكبر ابنه بعيداً عنه في ظروف اجتماعية غير صحية، ومجرّدة من أدنى متطلبات الرعاية الأسرية. كما تضطر الأم إلى هجر زوجها وبيتها لتوفير مصاريف الدراسة الابتدائية أو حتى الحضانة لطفلها. 
وعن الجهة المسؤولة عن هذا الوضع، تقول لان جو: "المسؤولية جماعية، إذ يتعلق جزء بالحكومة التي يفترض أن توفر التعليم والرعاية الصحية مجاناً لشعبها، وآخر بالقطاع الخاص الذي يستنزف جيوب المواطنين بلا أدنى مراعاة لظروفهم الاقتصادية، مثل الحضانات والمستشفيات وقطاع العقارات"، تضيف: "يجب أن يتحمل الشعب أيضاً مسؤولية خياراته حين يفاضل بين وظيفة وأخرى، ويختار الأكثر تحقيقاً للعائدات المادية على حساب العلاقات الاجتماعية في نطاق الأسرة الواحدة، إذ يمكن مثلاً قبول وظيفة متوسطة الدخل إذا كان الهدف الحفاظ على ترابط العائلة، أما الذين يغامرون في السفر إلى مدن ومناطق بعيدة بحثاً عن أجر مرتفع، فعليهم تحمل تبعات قرارهم".

طلاب وشباب
التحديثات الحية

وتستدرك بأن "من يدفع الثمن الأكبر هم الأطفال وليس الأهل، نتيجة نشأتهم في بيئة اجتماعية غير متكاملة لا تتوفر فيها شروط الرعاية ومتطلباتها الأساسية. وارتفاع معدلات الانتحار والاكتئاب في صفوف الأطفال والمراهقين مؤشر واضح إلى الخلل الاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع الصيني".
وتفيد دراسة أعدتها الأكاديمية الصينية للعلوم، مطلع العام الحالي، بأن 24 في المائة من المراهقين الصينيين يعانون من اضطرابات نفسية، وأن الانتحار يعد أحد الأسباب الخمسة الأولى للوفاة لدى الفئة العمرية بين 10 و18 عاماً.

المساهمون