ما زالت قضية "الأطفال غير الشرعيين" تمثّل مسألة شائكة في المغرب وفي العالم العربي عموماً، فيجد كثيرون أنفسهم محرومين من النسب.
بات من الصعب إثبات نسب آلاف من الأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج في المغرب، إلى آبائهم البيولوجيين، بعدما حسمت محكمة النقض، وهي أعلى سلطة قضائية، أخيراً، الجدال الدائر منذ سنوات في هذا الإطار، بإصدارها قراراً أكدت فيه أنّ "الطفل غير الشرعي" لا يرتبط بأيّ شكل من الأشكال بالأب البيولوجي لا بالنسب ولا بالبنوة. وقد أثار قرار محكمة النقض حول الاعتراف بالأبناء المولودين خارج مؤسسة الزواج في البلاد، غضب الجمعيات النسائية وعدد من الباحثين في الشأن الديني في المغرب، لما له من انعكاسات على مصير أطفال يأتون إلى العالم بلا دراية منهم، لا بقوانين المجتمع ولا بأعرافه ولا بدينه. فيصطدمون بمشاكل تتعلق بالهوية وما يرتبط بها من حقوق اجتماعية وشرعية وتعقيدات إدارية.
وتعود القضية المشار إليها إلى يناير/ كانون الثاني من عام 2017، عندما أصدرت المحكمة الابتدائية في مدينة طنجة (شمال)، حكماً يعترف بنسب طفلة ولدت خارج إطار الزواج بناءً على اختبار حمض نووي قدّمته الأمّ، في ما عُدّ سابقة في تاريخ القضاء المغربي. وقد حُكم حينها على الأب بغرامة قيمتها 100 ألف درهم مغربي (10 آلاف دولار أميركي)، لمصلحة الأمّ، على الرغم من أنّ هذا الاعتراف بالأبوة لا يمنح الطفلة حقوقاً من قبيل الإرث. لكنّ هذا الحكم الذي وُصف بـ"التاريخي"، ألغته محكمة الاستئناف في 13 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، استناداً إلى أحاديث نبوية وعدد من التفسيرات، ما دفع الأمّ إلى اللجوء إلى محكمة النقض التي أيّدت حكم الاستئناف بعدما رأت أنّ "ثبوت البنوة البيولوجية غير الشرعية دون النسب، ليس له مبرر لا شرعاً ولا قانوناً". بالنسبة إليها، فإنّ القواعد القانونية وقواعد الفقه المعمول بها، وهي بمثابة قانون، تقرّ بأنّ المولود خارج مؤسسة الزواج "يلحق بالمرأة (الأمّ) بغضّ النظر عن سبب الحمل". واستندت المحكمة في قرارها إلى الفصل 32 من الدستور المغربي الذي ينصّ على أنّ "الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع"، كذلك أشارت إلى المادة 148 من مدوّنة الأسرة التي صدرت في عام 2004 وتنصّ على أنّه "لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة إلى الأب أيّ أثر".
بالتزامن مع قرار محكمة النقض، تجددت في المغرب المطالبات بتعديل مدوّنة الأسرة، وذلك بعد مرور قرابة عقدَين على اعتمادها، وكذلك ملاءمة القوانين مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب. وفي السياق، تطالب رئيسة شبكة "إنجاد ضد عنف النوع" التابعة للرابطة الديمقراطية للدفاع عن حقوق المرأة، نجية تازروت، بـ"إصلاح شامل لتلك المدوّنة وملاءمتها مع الدستور ومع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ومع روح العصر، وبرفع كل أشكال الحيف والتمييز التي تكرّسها ضد النساء والأطفال، وبتسريع وتيرة المصادقة على قانون الدفع بعدم دستورية القوانين لضمان حق المتقاضيات والمتقاضين في الولوج إلى المحكمة الدستورية، بالإضافة إلى تفعيل مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الداخلية المنصوص عليها في ديباجة الدستور والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تستوجبه عملية المصادقة".
وبحسب تازروت، فإنّ "الحكم الصادر عن محكمة النقض هو استمرار للعنف المبني على النوع والتمييز بين الجنسَين، إذ يحمّل المرأة وحدها تبعات حمل خارج مؤسسة الزواج، فيما يعمد إلى تكريس تهرّب الرجل من تحمّل نتائج سلوكياته الجنسية وتشجيعه على التخلي عن أبنائه البيولوجيين وإعفائه من أيّ التزامات تجاههم". تضيف أنّ "هذا الحكم يُعَدّ فشلاً ذريعاً للمنظومة القانونية في مواكبة تطوّر العصر والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب".
وتتساءل تازروت: "كيف يعقل في القرن الواحد والعشرين أن تلغي المحكمة الأدلة العلمية المتمثلة في الخبرة الجينية التي أثبتت نسب البنت لأبيها البيولوجي وتعتمد على نصوص وأحاديث نبوية، ضاربة بعرض الحائط المصلحة الفضلى للطفل؟"، مشيرة إلى أنّ "الجمعيات النسائية تلقت القرار بخيبة أمل بعدما كانت تعتقد أنّ الحفاظ على المصلحة الفضلى للطفل هي غاية المشرع". وتتابع تازروت، في حديث إلى "العربي الجديد": "أشدنا ونوهّنا بحكم المحكمة الابتدائية في طنجة، الذي شكل بداية ميلاد اجتهاد قضائي جديد يعترف بحق الطفل الطبيعي في انتسابه لأبيه بغض النظر عن الحالة العائلية لوالدَيه وتأويل جديد لنصوص مدوّنة الأسرة. لكنّ إلغاء هذا الحكم بعد أشهر قليلة من قبل محكمة الاستئناف وبعد ثلاث سنوات من قبل محكمة النقض، كان صدمة كبيرة تلقيناها كحركة نسائية بعدما كنّا نعتقد أنّ الحكم الابتدائي سوف يكون مرجعاً لوضع حدّ لمآسي عدد كبير من الأطفال والنساء". وتلفت تازروت إلى أنّ "الدولة هي المسؤولة عن حماية ورعاية الطفل كيفما كان وضعه الأسري، كذلك يتوجب عليها حماية وضمان حقوق النساء الحوامل خارج مؤسسة الزواج حتى لا تضيع أجيال بسبب هذه القوانين والاجتهادات الجائرة في حق الأطفال والنساء معاً".
من جهته، يصف الباحث في الدراسات الإسلامية محمد عبد الوهاب رفيقي ما صدر عن محكمة النقض بأنّه "صادم ومفاجئ"، قائلاً إنّه "لا يتلاءم بأيّ حال من الأحوال مع مسيرة التحديث التي يعرفها المغرب، خصوصاً على مستوى القوانين". ويرى في حديث إلى "العربي الجديد"، أنّه "من العيب والعار أن نعتمد في القرن 21 وسائل تقليدية جداً في إثبات النسب، مع ما يتسبب فيه ذلك من هضم لحقوق آلاف الأطفال الذين يولدون خارج مؤسسة الزواج". يضيف رفيقي أنّ "لإشكالية الأطفال المولودين خارج إطار الزواج قنوات متعددة للحدّ منها ومعالجتها، لكن ليس بتضييع حقوقهم ومنع إثبات نسبهم إلى آبائهم البيولوجيين"، متابعاً "للأسف الشديد، أظنّ أنّه بمثل هذه القرارات نشجّع عدداً من الرجال على التبرؤ من أبنائهم وعدم تحمل المسؤولية عن فعل ارتكبه شخصان بالغان".
بالنسبة إلى رفيقي، فإنّ "مدوّنة الأسرة غير واضحة في باب إثبات البنوة. وعلى الرغم من أنّها تشير إلى استعمال الوسائل العلمية، فإنّها لا تثبت النسب إلّا بالطرق التقليدية، وتحديداً بما جاء في الفقه الإسلامي من أنّه لا تتوفّر وسيلة لإثبات النسب إلا الفراش (يُنسب المولود للزوج)". ويكمل أنّ "من الواضح جداً أنّ هذه القوانين لا تراعي حجم التغييرات والتحولات التي عرفها المجتمع، ولا حاجته إلى الاستفادة من العلم لضمان حقوق هؤلاء الأطفال وعدم تضييعها. لذا أعتقد أنّه يتعين النضال في هذا الباب، وإثارة النقاش وتوجيه الرأي العام نحو مزيد من عصرنة وتحديث هذه القوانين وعدم هضم حقوق فئة مهمة من المجتمع بسبب قوانين تقليدية".
تجدر الإشارة إلى أنّ دراسة أعدّتها "العصبة المغربية لحماية الطفولة المغربية" بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ومع عدد من المنظمات النسائية، قبل عامَين، بيّنت أنّ 11.43 في المائة من الأطفال يولدون خارج إطار الزواج في المغرب، وهو ما يعني أنّ 153 طفلاً يولدون يومياً خارج ذلك الإطار، ويتمّ التخلي عن 24 طفلاً منهم في الشارع.