خرج الطفل سعيد محمد آل عشة (15 عاماً) كعادته يومياً من منزل أسرته لرعي الأغنام في وادٍ قريب من منطقة رحبة جنوبي محافظة مأرب شمال شرقي اليمن، من دون أن يدرك أنه يسلك طريق الموت بانفجار قذيفة من مخلفات الحرب التي دارت في منطقتهم، ما جعل أسرته تعيش فاجعة كبيرة.
بعد ساعات قليلة من مغادرته المنزل لرعي الأغنام، هزّ انفجار عنيف المنطقة الريفية الهادئة وصل صداه إلى مناطق بعيدة. وعندما هرع السكان لمعرفة ما حدث، وجدوا سعيد قتيلاً في الوادي في مشهد أفزعهم، ومن بين من كانوا موجودين، حسن عبد الله الذي يروي لـ"العربي الجديد" أن "قذيفة من مخلفات الحرب انفجرت بالطفل سعيد فقتلته على الفور. وعثرنا على جثته ممزقة إلى أشلاء بتأثير الانفجار القوي، علماً أننا لم نعرف نوع القذيفة". يضيف: "منطقتنا مليئة بالألغام ومخلفات الحرب وتضم مناطق مصنّفة بأنها خطيرة للغاية، رغم أن القتال فيها انحصر في أشهر قليلة".
وقد توقفت العمليات العسكرية بالكامل منذ إعلان الهدنة في إبريل/ نيسان الماضي، لكن الألغام ومخلفات الحرب ما زالت تحصد أرواح المدنيين بشكل يومي في عدد من المحافظات اليمنية التي شهدت معارك منذ اندلاع الحرب المستمرة قبل 8 سنوات.
ويتحدث المدير التنفيذي للمركز اليمني للألغام فارس الحميري لـ"العربي الجديد" عن "رصد وتوثيق مقتل 38 مدنياً وجرح 54 آخرين منذ انتهاء سريان الهدنة التي ترعاها الأمم المتحدة في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وحتى 20 ديسمبر/ كانون الأول الماضي".
وشهدت محافظة الحديدة (غرب) سقوط ضحايا جراء الألغام خلال الهدنة. وقالت الأمم المتحدة في بيان أصدرته في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إن "الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة تسببت في مقتل 95 مدنياً وجرح 248 خلال الفترة بين إبريل/ نيسان وسبتمبر/ أيلول الماضيين، أي بزيادة نسبتها 20 في المائة مقارنة بالأشهر السابقة".
وسجلت بعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاق الحُديدة 159 إصابة بانفجار ألغام أرضية وحوادث تتعلق بالمتفجرات من مخلفات الحرب خلال أشهر الهدنة، وأشارت إلى أن أكثر من 50 في المائة من الجرحى والقتلى من النساء والأطفال.
وفي 6 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، انفجر لغم أرضي بموكب سيارات كانت تقل مسؤولين كبارا في بعثة الأمم المتحدة بالحديدة، ما ألحق أضراراً بآلية مصفحة.
وقالت مديرة الأمم المتحدة لأعمال إزالة الألغام إيلين كوهن خلال مؤتمر صحافي عقدته في ختام زيارتها لليمن في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إن "الألغام ومخلفات الحرب تستمر في قتل وجرح يمنيين أبرياء، وتحرم العديد من العائلات اليمنية من الوصول إلى المنازل والمزارع ومصادر الرزق، ما يفاقم الآثار المدمرة للنزاع".
منطقة مفخخة
وتقول هند، وهي امرأة أربعينية انفجر فيها لغم أثناء عودتها إلى منزلها في منطقة الشقب بمدينة تعز (جنوب غرب)، ما تسبب في بتر إحدى قدميها، لـ"العربي الجديد": "خلال عودتي إلى المنزل لتفقد حالته بعد أشهر من توقف القتال، ومعاينة الدمار الذي لحق به، وقعت ضحية لغم زرعه الحوثيون داخله بعد انسحابهم، وهو ما تكرر مع نساء أخريات من القرية ذاتها أصبن وبترت اقدامهن، وإحداهن ابنة عمي".
وتتهم الحكومة اليمنية ومنظمات حقوقية جماعة الحوثي بزرع ألغام في معظم مناطق اليمن، واستخدامها خلال الحرب كاستراتيجية لمنع تقدم القوات الحكومية عبر زرعها في المناطق التي انسحب مقاتلوها منها، في حين يتهم الحوثيون التحالف الذي تقوده السعودية بنشر مخلفات الحرب من القنابل العنقودية عبر الغارات الجوية التي نفذت خلال الحرب.
زرع كثيف وعشوائي
ويقول المدير التنفيذي للمرصد اليمني للألغام فارس الحميري لـ"العرب الجديد": "زرع الحوثيون حقول ألغام كثيفة وعشوائية لم يكن لأغراض عسكرية بحتة، لأنهم فخخوا طرقات ومزارع ومنازل لنازحين وأراضي في مناطق ريفية يرتادها المزارعون ورعاة ماشية، ما فاقم المعاناة ورفع حجم الخسائر البشرية والمادية".
يتابع: "محافظة الحديدة أكثر منطقة يمنية مزروعة بالألغام والذخائر المتفجرة والقنابل والقذائف من مخلفات الحرب، وبعدها المناطق الغربية والساحلية من محافظة تعز، وأخرى في مأرب والبيضاء والجوف، ومحافظتي صعدة وحجة"
خدَع متطورة
ونفذ الحوثيون عمليات زرع الألغام عبر عمليات تمويه وخدع أوقعت ايضاً الكثير من الضحايا من القوات الحكومية، وهناك مطالب دولية وحكومية بتسليم الحوثيين خرائط الألغام التي زرعوها.
ويتهم الحميري الحوثيين "بإدخال تقنيات حديثة ومواصلة تطوير ألغام محلية الصنع يعمل بعضها بالأشعة تحت الحمراء، وألغام أخرى حرارية بعضها مزودة بكاميرات، وأيضاً بزرع ألغام فوق بعضها من طابقين وثلاثة. وهذه الحيل صعبت مهمات الفرق العاملة في تطهير الألغام".
يضيف: "العبوات المموهة وعملية ربط حقول ألغام بمجسات موحدة مزودة بكاميرات تنفجر في شكل متزامن مثلت تهديداً كبيراً للعاملين في مجال التفكيك، إلى جانب حيل أخرى طبقها الحوثيون لاستهداف العاملين نفسهم في نزع الألغام".
ومنذ منتصف عام 2018، قتل أكثر من 30 خبيراً في نزع الألغام، بينهم خمسة أجانب، في حين أصيب أكثر من 40 من العاملين في مشروع مسام لنزع الألغام بجروح مختلفة. ويعود ذلك إلى واقع تعامل الفرق الهندسية مع ألغام غير تقليدية، مطوّرة ومموّهة.
منذ السبعينيات
ويرى رئيس منظمة "سام" للحقوق والحريات توفيق الحميدي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "زراعة الألغام الفردية تعد جريمة حرب وفقاً للقانون الدولي، كونها تستهدف الإنسان وتحرمه من ممارسة حياته الطبيعية بعد إصابته، وبالتالي تلحق ضرراً جسيماً بالسكان، وتعيق حياتهم".
يضيف: "تتراكم جرائم الألغام في اليمن منذ سبعينيات القرن الماضي، في ما سمي بحرب المناطق الوسطى. ورغم توقيع اليمن اتفاق اوتاوا لحظر الألغام، وإعلان النظام السابق تدمير جميع الألغام الفردية، استغلت جماعة الحوثي مخزون هذه الألغام في تدمير الإنسان اليمني".
ويشير إلى أن "هذه الجرائم قد تدفع الى رفع دعاوى جنائية أمام مؤسسات العدل الدولية، في حال توفرت الشروط الدبلوماسية والإجرائية لفعل ذلك. وإلى جانب كون الألغام جريمة فهي مشكلة إنسانية واقتصادية كبيرة تتطلب معالجتها تنفيذ استراتيجية وطنية واضحة، وتوفير إمكانات كبيرة لا تتواجد في اليمن. وقد تسببت الألغام في أضرار نفسية وجسدية لكثير من اليمنيين الذين بترت أقدامهم أو أيديهم في ظل ضعف الإمكانات الصحية، ما يجعل الضحية يعيش أسير وجعه مدى الحياة، في ظل غياب الوعي المجتمعي".
مساحات واسعة
وفي 26 نوفمبر/ الماضي، قررت الدول الأطراف الموقعة على اتفاق "أوتاوا" لحظر الألغام، تقديم دعم لليمن في مجال نزع الألغام لمدة 5 سنوات.
وتقول الحكومة اليمنية إنها تحتاج إلى 48 مليون دولار لدعم عمل الفرق التابعة لها من أجل نزع الألغام.
ويقول مدير البرنامج الوطني للتعامل مع الألغام، أمين العقيلي لـ"العربي الجديد": "نزعت الفرق الهندسية خلال عامي 2020 و2021 مجموع 3064 لغماً مضاداً للأفراد، و53002 لغم مضاد للدروع، و177696 من مخلفات حرب، و4591 عبوة ناسفة زرعها الحوثيون في مناطق سكنية وطرقات.
وتتهم وزارة حقوق الإنسان اليمنية الحوثيين بزرع أكثر من مليون لغم في المحافظات اليمنية منذ بداية الحرب عام 2015، في نسبة تعتبر الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية.
وأفاد الإحصاء الأخير الذي نشره مشروع "مسام" السعودي لنزع الألغام في اليمن، بأن "368351 لغماً أزيلت منذ منتصف عام 2018، منها 5680 ضد الأفراد، و133094 ضد الدبابات، و7536 عبوة ناسفة، وجميعها زرعتها جماعة الحوثي. كما بلغ إجمالي الأراضي التي جرى تطهيرها من الألغام 39444793 هكتارا".
وفي إبريل/ نيسان الماضي، أعلنت الأمم المتحدة أن عدد ضحايا الألغام في اليمن منذ العام 2018 بلغ أكثر من 1800، بينهم 689 امرأة.
وخلال جلسة عقدها في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حذر مجلس الأمن الدولي من استمرار قتل وجرح المدنيين جّراء الألغام الأرضية ومخلفات الحرب غير المنفجرة في اليمن، ودعا إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لها.