على أنقاض منزل استهدفه الاحتلال الإسرائيلي في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، راح حازم رحمة ينادي على ابن عمّه عبد الله. وفي كلّ مرّة، راح يرفع صوته أكثر. هو ظنّ أنّ عبد الله ما زال حياً، إذ سمع أصواتاً في الأسفل. ويتكرّر هذا المشهد في مواقع مختلفة، فكثر يبحثون عن أهل وأقارب وجيران وأصحاب مفقودين، انقطع التواصل معهم بعد غارات إسرائيلية، غير أنّهم يعلمون أين كان هؤلاء في خلال القصف.
ومن بين هؤلاء من يجتاز مسافات طويلة لبلوغ المواقع المدمّرة والتأكّد من نجاة الأشخاص الذين طاولهم القصف أو استشهادهم. ويحاولون تقديم المساعدة إلى المسعفين، من مختلف فرق الإنقاذ والدفاع المدني، الذين يرصدون كلّ دليل ممكن يشير إلى احتمال نجاة أحدهم.
وتفيد بيانات أخيرة، صادرة عن وزارة الصحة وجهاز الدفاع المدني الفلسطيني في غزة، بأنّ نحو 1500 مفقود ما زالوا تحت الأنقاض، مع الإشارة إلى أنّ أكثر من نصفهم من الأطفال. وهؤلاء جميعهم عالقون في أسفل مبانٍ هُدمت بأكملها فوق رؤوس ساكنيها من دون سابق إنذار، الأمر الذي يصعّب عملية إنقاذهم وسط الإمكانات المحدودة، بالإضافة إلى صعوبة الوصول إلى المواقع المستهدفة أحياناً بسبب الدمار الهائل الذي يشمل الشوارع كذلك.
على مدى يومَين، ظلّ حازم رحمة يحاول الحصول على أيّ معلومة عن ابن عمّه عبد الله. وكلّما سُحب ناجٍ من الموقع أو انتُشلت جثّة شهيد أو أشلاء آخر، حاول التعرّف إليها. وبعدما فقد الأمل، توجّه إلى مجمّع ناصر الطبي، لعلّه يعثر على عبد الله بين الشهداء في الثلاجات، أو بين آخرين صُنّفوا "مجهولي الهوية" ووُضعوا في إحدى الخيام، لكنّه لم يجده.
ويخبر حازم "العربي الجديد" أنّه "عندما تواصلت مع ابن عمي في المرة الأخيرة، كان في المبنى قبل استهدافه، وقد أكّد لي ذلك أحد المصابين هناك". يضيف أنّه ما زال ينتظر "وقد اقترب الوصول إلى قاع المبنى بعد ثلاثة أيام من إزالة الأنقاض". ويتابع أنّ "الدماء في كلّ مكان وكذلك الروائح الكريهة"، مشيراً إلى أنّه ساهم في البحث كما فعل آخرون على الرغم من أنّ أيديهم دُميت.
يُذكر أنّ عشرات الجثث مجهولة الهوية دُفنت في مقابر طوارئ، منذ بدء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، بعدما فاضت مقابر مدينة غزة. ويُعتقَد أنّ مجهولي الهوية هم من أفراد أو أقارب عائلات تعرّضت لإبادة. ووفقاً لبيانات وزارة الصحة في غزة، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي ارتكب مجازر في حقّ 550 عائلة تقريباً في قطاع غزة، وما زالت عائلات كثيرة غير قادرة على إحصاء كامل ضحاياها، لأنّ عدداً كبيراً من أفرادها ما زال تحت الأنقاض.
الجميع معني بالبحث والإنقاذ
وفي خلال عمليات البحث والإنقاذ التي تُنفَّذ وسط العدوان الأخير، يبدو الحفر بالأيدي العارية واحدة من أكثر الطرق شيوعاً، بحسب ما وثّقت عشرات تسجيلات الفيديو التي تُبَثّ على مواقع التواصل الاجتماعي. ويأتي ذلك خصوصاً عند سماع صوت ما أو الشعور بحركة ورؤية ضوء وسط الركام.
عزيز صبرة وشقيقه صهيب شابان فلسطينيان قدّما المساعدة في خلال عمليات بحث وإنقاذ، عندما انهار منزل جيرانهما قبل أيام في حي تلّ الهوا، بعد قصف إسرائيلي دمّر كذلك مبنى آخر ملاصقاً له. فسكان المنطقة سارعوا إلى المكان، إذ إنّ فرق الدفاع المدني لم تصل إلا بعد ساعة ونصف ساعة، لأنّ الاحتلال ظلّ يغير على المنطقة مستهدفاً مواقع ومباني مختلفة.
ويخبر عزيز "العربي الجديد" أنّ "الجميع هرع حينها للمساعدة في الإنقاذ، من خلال إزالة الأنقاض لإخراج الذين علقوا في المبنى المنهار". ويشير الشاب الفلسطيني إلى أنّ "الذين يحاولون الإنقاذ قد يتعرّضون بدورهم إلى إصابات". ويتابع أنّه حينها "سُمعت أصوات كثيرة تحت الأنقاض"، وفي مرّة سابقة "راح أشخاص ينطقون الشهادة وآخرون يصرخون قبل أن تختنق أصواتهم".
من جهته، يقول شقيقه صهيب إنّ "العائلة نزحت صباح السبت الماضي في اتجاه وسط قطاع غزة، بعد اشتداد القصف على حي تلّ الهوا، وقد علقنا يوماً كاملاً بسبب شدّة القصف". يضيف صهيب: "خرجنا على أقدامنا للوصول إلى الشارع الخارجي، وقد شاهدنا شوارع كثيرة تغيّرت ملامحها في حين أنّ أشلاءً ودماءً كانت تتوزّع في الشارع". ويؤكد أنّ "في أحياء كثيرة، ما زال الدفاع المدني يمضي في عمليات البحث عن ناجين تحت الأنقاض في المنطقة".
في الإطار نفسه، يخبر أحمد نوفل "العربي الجديد" أنّه "على مدى 13 ساعة متواصلة، رحنا نبحث بأيدينا للعثور على ناجين أو انتشال جثث من تحت أنقاض المنزل". والمنزل الذي يتحدّث عنه كان يقع في شارع العشرين بمنطقة النصيرات، وهو يعود إلى عائلة نوفل، وقد قصفه الاحتلال الإسرائيلي مساء الجمعة الماضي. وبحسب ما أفادت العائلة، فإنّ 100 شخص تقريباً كانوا في المنزل المستهدف، من بينهم عدد كبير من النازحين الذين ظنّوا أنّه آمن.
وعلى مدى ساعات طويلة، استمرّت عمليات البحث، ويوضح أحمد أنّ "المخاطر وقلّة الإمكانات تعرقل تلك العمليات". وبينما يلفت إلى أنّ "قطاع غزة تحوّل إلى جحيم"، يؤكد أنّ "الجميع يحاول المشاركة في عمليات الإنقاذ، إذ إنّ فرق الإسعاف والدفاع المدني تصل متأخرة، ولا أحد يريد أن يفقد أقاربه". ويتابع: "أنا أعيش في مخيم جباليا، وقد عرفت أنّ عدداً من أصدقائي تحت الأنقاض، لكنّني أجهل مصيرهم. أنتظر نهاية العدوان حتى أعلم ما الذي حلّ بهم".
"لم يسعفنا أحد"
في سياق متصل، يقول المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني في غزة محمد بصل لـ"العربي الجديد" إنّ "جرائم الاحتلال الإسرائيلي المتتالية مقصودة، وهدفها إيقاع أكبر عدد من المدنيين وتدمير الطرقات لعرقلة عمل الطواقم الطبية والدفاع المدني، وذلك في إطار إخضاع الغزيين إلى عقاب جماعي من خلال قتل متعمّد"، مشيراً إلى الاحتلال "على دراية بالإمكانات المتواضعة المتوفّرة للطواقم الطبية والدفاع المدني".
ويرى بصل أنّ "الجثث تحت الأنقاض أكثر ممّا يُعلَن عنه"، موضحاً أنّ "أعداد المفقودين المبلّغ عنهم كبيرة، في حين أنّ ثمّة مفقودين آخرين لم يذكرهم أحد، إذ قد يكون أهلهم من الشهداء". ويشير بصل إلى أنّ "غزيين كثيرين يتوجّهون إلى المواقع التي تعرّضت للقصف، ثمّ يجمعون أشلاء أقاربهم قبل دفنها في مقبرة جماعية".
ويؤكد المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني أنّ "قلة الإمكانات لدينا تساهم في زيادة أعداد الضحايا، وهذا أمر نحذّر منه منذ سنوات، لكنّ أحداً لم يتدخّل ويسعفنا ولا جهات دولية دعمتنا". ويشرح أنّ "آلياتنا متهالكة فيما نعمل على مدار الساعة تحت ضغط هائل. تُضاف إلى ذلك خسارتنا آليات جديدة دُمّرت كانت مخصصة للطواقم الطبية والدفاع المدني، في حين تُستهدّف الطرقات المؤدية إلى مواقع القصف. كذلك فإنّ عناصر من الجهاز يعمدون إلى النوم في الشارع لساعات قليلة، قبل أن ينهضوا لإنقاذ الناس".
ويتحدّث بصل عن أنّ "عمليات الحفر بالأيدي للبحث عن الناجين والضحايا تُعتمَد باستمرار من قبل طواقم الدفاع المدني، كذلك نعتمد على أدوات عادية مثل شواكيش الهدّ وأجهزة لحفر الباطون. لكنّ تلك الأجهزة تتوقّف عن العمل أحياناً لنفاد البطاريات أو انقطاع التيار الكهربائي الذي يمنع شحنها". ويلفت بصل إلى أنّ جهود الإنقاذ تتأثّر كذلك بكثرة العمليات، لا سيّما عندما تُضطر الفرق إلى التوزّع بين أكثر من موقع تعرّض إلى القصف.
كارثة بيئية محتملة
من جهة أخرى، يحذّر المهندس والخبير في شؤون البيئة أشرف شاهين من "تفاقم الكارثة إنسانية وكذلك البيئية في قطاع غزة، بسبب الجثث العالقة تحت أنقاض المنازل المدمّرة بفعل استمرار القصف الإسرائيلي". ويتحدّث لـ"العربي الجديد" عن "تدمير للبنى التحتية يؤثّر سلباً على التربة والمياه الجوفية، علماً أنّ تلك البنى متهالكة منذ ما قبل العدوان الإسرائيلي الأخير"، مؤكداً أنّ "مؤسسات بيئية كثيرة كانت قد حذّرت من تهالك البنى التحتية في غزة".
ويوضح شاهين أنّه "منذ عام 2014، صدرت تقارير عدّة حول أضرار في التربة والبنى التحتية في كلّ المناطق التي تعرّضت للاستهداف الإسرائيلي، لأنّ التربة تمتصّ مركّبات ثقيلة من البارود، وهو الأمر الذي أضرّ كذلك بمساحات كبيرة من الأراضي الزراعية".
ويرى شاهين أنّه "مع شدّة المجازر المرتكبة في خلال هذا العدوان، نحن على موعد مع أزمة بيئية غير مسبوقة، نتيجة اختلاط الجثث مع المركّبات الثقيلة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضدّنا، وكذلك بقائها لوقت طويل تحت الأنقاض وتحلّل بعض منها، خصوصاً أنّنا على مشارف دخول فصل الشتاء". ويكمل أنّ "الأمطار تساهم في انتقال المركّبات الثقيلة إلى المياه الجوفية وإلحاق كوارث بيئية مستقبلاً، في حال لم يُسجَّل تدخّل عاجل من قبل المنظمات الدولية الإنسانية والبيئية".