في مسقط رأسه بمدينة دزفول في محافظة خوزستان، جنوب غربي إيران، حوّل الدكتور في التخطيط الدراسي حسن غلجين نجاد الشوارع والأرصفة إلى صفوف للدراسة أو بالأحرى إلى مدارس احتضنت أطفالاً فقراء مهمّشين بأمل أن يغيّر نمط حياتهم ووجهتها، ويبني لهم مستقبلاً مختلفاً عن واقعهم المتردي. حبه للآخرين قاده إلى واحة إنسانية غيّرت مسار حياة عشرات الأطفال وعائلاتهم، وحوّلت أيضاً دزفول إلى مدينة خالية من أطفال الشوارع، ومن التأثيرات السلبية لهذه الظاهرة اجتماعياً وثقافياً وأمنياً وقضائياً.
يقول غلجين نجاد، الذي يدرّس في الجامعة ويدير في الوقت ذاته مدرسة آية الله فلسفي في دزفول، لـ"العربي الجديد": "مررت قبل ثلاث سنوات برفقة ابنتي فاطمة في ساحة الإمام الخميني بالمدينة، فرأيت طفلاً في التاسعة أو العاشرة من عمره يبيع إسفنج غسل الصحون وأدوات أخرى يجلس في زاوية من الشارع، ويستخدم دفتراً كان في حوزته وضعه في غلاف بلاستيكي مربع لرسم خطوط عليه، فاعتقدت أنه يرسم، لكن حين اقتربت منه وركزت على الدفتر وجدت خطوطاً غير مفهومة وعشوائية، فسألته ما اسمك فرد آرش. وقلت له أنا معلم، فوقف فوراً وسألني: حقاً؟ وماذا تدرّس؟ فقلت له طلاب المرحلة الأساسية. ثم سألته هل تذهب إلى المدرسة فقال نعم، وأردت معرفة اسم مدرسته، فسكت، ثم سألته في أي صف، فرفع كل أصابع يديه، ما يعني أنه في الصف العاشر، ثم علمت أنه سرح في خياله، وأنه لم يدخل المدرسة مطلقاً. فلم أزعجه بأسئلة أخرى".
ويشير غلجين نجاد إلى أن آرش عشق العلم والمدرسة، لكن وجود أسرته في شكل غير قانوني في إيران وعدم امتلاكها إقامة دائمة، حرماه من ترجمة أمنيته بالدراسة، "لذا حين عرضت عليه تعليمه، غمره فرح وسرور. وجلست على أرض الرصيف لاختبار مدى قدرته على الكتابة، ووافق على إجراء مسابقة، وكتب أحرفاً وعلامات فارسية تستخدم في تعليم الصف الأول، فاكتشفت أنه ذكي جداً، ويستحق أن أخدمه كي يتعلم".
يضيف: "حينها، اعترضت ابنتي فاطمة على جلوسي على الأرض، خشية أن يراني طلابي الجامعيون وتلاميذي على هذه الحال، وقالت لي: بابا عيب أن تجلس هكذا، فرددت: العيب أن يبقى آرش أميّاً بلا علم، وأن أتخلى عن مسؤوليتي تجاهه".
وأعقب ذلك ذهاب غلجين نجاد إلى بيت عائلة آرش للقاء والده وسأله عن سبب عدم ذهاب ابنه إلى المدرسة، فأوضح له أنه دخل مع عائلته إلى إيران بطريقة سرّية ما جعل أفرادها بلا إقامة دائمة، ثم بذل جهداً حثيثاً وراجع مدارس لتسجيل ابنه فيها، لكنها رفضت استقباله.
وأبلغ غلجين نجاد والدي آرش باستعداده لتعليم ابنهما في ظل عدم إمكان التحاقه بمدرسة، فغمرهما فرح عظيم، وسأله الوالد: "كم تأخذ مقابل التعليم"، فرد: "لا شيء. أنا أعمل ذلك مرضاة لوجه الله وعن روح والدتي المتوفاة".
وغداة ذلك اليوم، اشترى غلجين نجاد مستلزمات تعليم آرش من كتب ودفاتر وحقيبة وألبسة وأدوات مكتبية، وبدأ في تعليمه على رصيف شوارع دزفول يومياً لمدة ساعتين عصراً طوال ثلاثة أشهر، فنال جهده الإنساني إعجاب أهالي المدينة الذين نقلوه إلى العالم الافتراضي. ثم خطر في بال المعلم أن يوسع نشاطه الإنساني ويبحث مع آرش عن أطفال آخرين مثله في أزقة وشوارع المدينة، ووجدا أربعة أطفال أميين بأعمار مختلفة وألحقوهم بـ"مدرسة الشارع".
ويتحدث غلجين نجاد عن أنه "مع ارتفاع عدد الطلاب، اقترحت أن يساعدني آرش في تعليمهم، فغمره الفرح، وقال لي بسرور واستغراب: يعني هل أصبحت أنا أيضاً معلماً؟ فقلت له: نعم أصبحت معلماً مساعداً. ثم أصبح أكثر حماسة لمواصلة التعلم والبحث عن أطفال آخرين لضمهم إلى مدرستنا".
وحالياً، يجمع غلجين نجاد وتلميذه آرش 75 من أطفال المهاجرين السرّيين في دزفول الذين التحقوا جميعهم بمدرسة أصبحت تعرف باسم مدرسة الشارع المفتوحة، وذلك بعدما أقنع الأستاذ الجامعي أولياء أمورهم بضرورة تعلم أبنائهم، ثم وفر بمساعدة محسنين من أبناء المدينة أدوات مكتبية وكتباً وألبسة لجميع التلاميذ.
ويوضح أن التلاميذ المنتمين إلى عائلات مهاجرين سرّيين يتحدرون من والدين أفغانيين أو من والدة طاجيكستانية ووالد أفغاني أو والدة إيرانية ووالد أفغاني، وبينهم أيضا أطفال من والدين باكستانيين.
ومن أجل مواصلة التعليم في الشتاء أيضاً، تبرّع رجل محسن بصالة في مصنعه كي ينتقل إليها التلاميذ ويواصلون التعليم فيها، فأنشئت مدرسة "الحاج قاسم"، التي تفتح أبوابها ثلاث ساعات في المساء، ولا تتوقف فيها الدراسة على مدار السنة.
ولم يكتف غلجين نجاد بتلقين معلومات الكتب المدرسية فقط، بل علّم التلاميذ أيضاً مهارات فنية ورياضية وأسس الحياة والأخلاق، وأهّلهم لمواجهة التحديات والمشاكل. ويدرس الطلاب والطالبات في المدرسة في ثلاثة صفوف، والتلميذ الأول آرش أصبح اليوم في الصف الثالث.
إلى ذلك، خلق غلجين نجاد فرص عمل لأسر هؤلاء الطلاب والطالبات، خصوصاً الأسر التي فقدت الأب المعيل، ووفر أعمالاً لربّات هذه الأسر، بعد تأسيسهن في أعمال مثل طبخ الخبز المحلي وبيعه لمحسنين في المدينة والمحافظة، وكذلك تغليف الخضار والمواد الغذائية التي توزع على السوبرماركت.
ورغم أن العمل الإنساني الكبير الذي قام به غلجين نجاد لإعادة أطفال وأسرهم إلى الحياة لم يجلب الاهتمام الرسمي المناسب، لكنه يضع نصب عينيه اليوم حل مشكلة الأطفال من أبناء المهاجرين السريين، من خلال السماح بالتحاقهم بالمدارس الرسمية. وهو يقول: "أبحث مع منظمة التعليم والتربية في محافظة خوزستان ووزارتي الداخلية والتعليم والتربية في توفير إطار قانوني لتسجل هؤلاء الأطفال في المدارس الرسمية ليس فقط في دزفول بل في أنحاء إيران. وآمل بأن تتحقق أمنيتي التي أطالب المسؤولين بالمساعدة كي ترى النور وتحل مشكلة هؤلاء الأطفال".